إرتبطت بالفن بشدة منذ طفولتي وكنت أرسم بإستمرار وخاصة خلال المرحلة الإعدادية، في هذ الوقت كان بالمدارس المصرية وعي بالفن والرسم وكانوا يشجعون المواهب بإختلافها سواء موسيقي أو رسم أو نحت وهناك إهتمام من الأساتذة كبير ولا يقتصر الإهتمام علي معلمي التربية الفنية فقط. أذكر أن كان معلم الفرنسية هو أول من شجعني عندما علم بموهبتي حتي أنه كان يكتب في بطاقة التقديرات الشهرية والتي كانت ترسل للأهل آنذاك ملاحظات حول ضرورة ثقل موهبتي وتنميتها وأذكر أيضا أنه في تلك الفترة إستدعت المدرسة كبار الفنانين كنوع من التحفيز للطلاب وأيضاً لنقل خبراتهم وحضر الفنان المرحوم حسن حشمت والفنان حمدي غيث للمهتمين بالتمثيل وفؤاد أحمد للطلاب المهتمين بالموسيقي بعد ذلك تقربت أكثر من الراحل حسن حشمت وعملت معه بالخزف واللوحات. تعلمت علي يد كبار الأساتذة مما شكل فارقاً في بداياتي الأولي ولكن والدي لأنه خريج الأزهر الشريف كان يخشي علي من مزاولة الرسم برغم أنه كان متفتح جداً فقد كنت مختلف عن باقي إخوتي فهم كان يحاصلون علي الدرجات النهائية فيما كنت أنجح أنا بصعوبة وكننت أواجه صعوبة في الإنصراف عن الرسم لأي شيء آخر حتي أن إخوتي كانوا يأخذون أدواتي ويكسرونها خوفاً علي مستقبلي الدراسي وكنت أقوم بشراء أدوات جديدة لأكمل المشوار الذي قررت الإستمرار يه.
تعرفت علي أستاذي عدلي يس وكان يدرس التربية الفنية وكان يعشق مهنته ونقل إلينا خبرته ومهارته وبرغم من أننا كنا نتعلم بمدارس حكومية، إلا أننا كنا نحظي بعناية فائقة وإهتمام كبير غير موجود بالمدارس الاجنبية الآن. وإستمرت مقاومة أهلي وزاد إصراري علي مزولة الرسم حتي دخلت الثانوية وإنتقل معي أستاذي عدلي يس وبدأ يطلب مني عمل لوحات كبيرة علي الحائط ومن هنا بدأت العمل بطريقة جدية وأصبحت معروفاً أيضاً وحصلت علي الثانوية العامة بصعوبة وإلتحقت بكلية التربية الفنية في هذا الوقت كان يتم إحراء إختبارات قبول وبالفعل حصلت أيضا علي المرتبة الأولي وكنا يومياً نتلقي اختبار في مجال جديد الأول رسم ثم نحت ثم زخرفة، ولكني من أول يوم أختبار وجدت الأساتذة يأتون إلي لمشاهدة لوحاتي وأسلربي في العمل وشعرت بالفرحة لهذا التقدير والإهتمام. وعندما حصلت علي المرتبة الأولي، كان الأساتذة يتصارعون علي لأنضك للقسم الخاص بهم وهنا شعرت بفرحة رهيبة وكنت أحظب بإهتمام بالغ من قبل كل الأساتذة فقد توسم في الجميع الموهبة وكان الكل علي أتم إستعداد لمساعدتي ومن هنا إكتسبت أكثر من خبرة لتنوع الخبرات حولي ورغبة الجميع في العطاء. كانت كلية التربية الفنية آنذاك تضم أساتذة من نجوم الحركة الفنية سناً ومقاماً. أذكر في سنة أولي كان يدرس لي أستاذ لديه 60 سنة ولم يكن هذا التقدم في العمر فقط بل كان 60 سنة خبرة ينقلها لنا ولا يبخل علينا بشئ ويوجهنا للطريق السليم فهم كانوا كبار في السن والمعرفة ولهم وزنهم علي الساحة الفنية، تعلمنا منهم الفن وأيضا المبادئ والأخلاق وعدم الغرور، بدات بعد ذلك العمل بالمعارض الخاصة بالمحترفين وكان في هذا الوقت يقام معرض من أهم المعارض في مصر يُسمي صالون القاهرة تحت رعاية جمعية محبي الفنون الجميلة، أردنا وقتها الذهاب للنوبة وكان من ضمن الأساتذة ممن كنت أعمل معها سعد الخادم أحد رواد الفن وتبناني وكنت أعمل معه وعلمني أشياء كثيرة وكنت قريب منه وكان له معارف كثيرة وأردنا الذهاب للاقصر وأسون وكان ذلك جزء من الدراسة وكنا نريد الذهاب للنوبة وذهبت للأستاذ سعد الخادم لأن الرحلة كانت تكلفتها أعلي من قيمة الإشتراك بألفين جنيه مما سيشكل صعوبة في الذهاب. وقد كان قام أستاذي سعد الخادم بالتحدث مع صديقه الأديب الكبير يحي حقي وأخبره برغبتنا بزيارة النوبة وطلب منه أن يدفع ألف جنيهاً وهو يدفع الألف الأخري لتغطية التكاليف المتبقية وإسعادنا. وبالفعل ذهبنا وكنا نُصور كل قرية نقابلها ونري الآثار وفي نهاية اليوم نجتمع مع الأستاذ يحي حقي وزوجته والأستاذ سعد الخادم وزوجته فنتحدث سوياً. وبعد العودة من النوبة، قدمت عدد من اللوحات وشاركت في معرض صالون القاهرة ونلت جائزة ،وكنت لا زلت طالباً بالفرقة الثانية. ولأن هذا المعرض يُشارك فيه كبار الفنانين وأحياناً تُرفض أعمالهم لذا شكلت الجائزة قيمة كبيرة لي ومنحتني كثير من الثقة والحماس وبدأت أشعر بالمسئولية وبدأت أشارك في المعارض وأحيانا يكون شرط الإشتراك المشاركة بثلاث أعمال وكنت أشارك بعشرة أعمال أو أكثر.
بالطبع فهم مكملين لبعضهم وأهم ما يميز الدراسة في كلية التربية الفنية هي أننا نقوم بدراسة أشياء مختلفة ومتنوعة ولا نتخصص بمجال واحد فندرس رسم وتصوير وخزف وطباعة ومنسوجات وغيرها وهو أمر مفيد للغاية إذ تشجعنا علي العمل مع كل الخامات وتُكون لدينا الخبرة لممارسة كل أنواع الفنون وتنمية روح الإبتكار. وأنا عاشق للنحت والتصوير منذ الصغر وبعدها أتقنت الخزف والحفر وأصبحت لدي خبرة منوعة وأي فنان لديه خيال و قدرة علي التصميم وخبرة يمكنه تنفيذ عمل فني ذو قيمة .
لقد درست جميع المدارس الفنية وتخصصت فيها أثناء دراستي في النرويج وأيضا حصلت علي الدكتوراة من جامعة نيويورك ودبلومة من جامعة أسلوه مما جعلني علي دراية تامة بكل المدارس الفنية و تعرفت مبكراً علي الفن في أوروبا وعلي فنانين وزرت معارض ومتاحف عديدة وتعرفت علي المدارس والإتجاهات التاريخية الموجودة ووجدت أنه يجب أن تنصهر كل تلك المعارف بداخل شخصيتك لتخرج بأسلوبك الخاص بك وكيلا تصبح مقلداً لأحد وهو أمر هام للغاية وخاصة لفنان شاب وتعلمت أنه عندما أنفذ عمل ينبغي أن أبرز روح تعيش بداخل العمل بطابع خاص بي ودائماً ما أربط بين دراستي العميقة للتراث المصري منذ القدماء المصريين للعصر القبطي ثم الإسلامي والحديث وأيضاً الشعبي الذي درسته بعناية ومن ثم أصبحت أقوم بعمل فن حديث وعند رؤيته ستعي أن من قام به فنان مصري.
عندما يرد علي خاطرك موضوعاً ما فهو يفرض عليك المادة المناسبة له والخامة التي ستناسبه ثم حجم التمثال ونوعية الأسلوب الذي سيتم تنفيذه به سواء كان قريب من الواقعي أم التجريد أم بين الإثنين كل هذا يقرره الفنان عندما تأتيه الفكرة واحياناً أجد الخامة الجيدة وأبحث لها عن موضوع يُناسبها فتكون الخامة حينها هي المدخل وهي التي تخلق الموضوع وتوجهني للمقاس فالعمل الفني مُركب من عدة ناصر ولكن دائماً ما نجد عنصر هو الذي يسلك الطريق ويوصل الفكرة وهنا تبدأ المحاولات لإخراج العمل بأفضل صورة له. كنت في البداية أعمل بالخزف بمادة تسمي «تري كوته» أي الطينة المحروقة التي يشكل بها الفخار وكنت أقوم بعمل التماثيل وبعد ذلك أحرقها بألوان الأكسيد المصرية الطبيعية وعملت بهذه المادة مدة طويلة ثم توقفت عن العمل بها تماماً لأن بعض الأفراد سرقوا الأشكال الخاصه بي وبدأوا يعملون عليها قوالب ويبعونها بأماكن كثيرة، لذلك بدأت أنحت بالخشب ثم بالبرونز أي المعدن والذي أعجبني للغاية لأن أغلب التماثيل التي قمت بها بالتري كوته تكسرت لأنها فخار ولكن البرونز لديه القدرة علي البقاء كما يعطي شعور خاص وقيمة أرفع.
أنا دائم الإطلاع علي كل أنواع الفنون وأذكر عندما كنت في أمريكا كنت أعد الدكتوراه في الفن الشعبي وزوجتي كانت تُعد دكتوراه في الفن الإسلامي وكنا نتعاون معاً ونتبادل الأفكار ونتعلم أشياء جديدة ونقرأ أمهات الكتب. كنت أقرأ كتاب إسمه رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء تاليف خمس من كبار الفلاسفة المتصوفيين، وكان له أكثر من مجلد وبه معلومات جيدة جداً وجدت أحد الفلاسفة يتحدث حول أن الخالق عز وجل أراد للمسلم أن يُمثل كافة الكائنات أثناء الصلاة ،بمعني عندمل يقف ويرفع يديه ليقول الله أكبر هو يشرع أجنحته فهو هنا ملاك وعندما ينحني يصبح حيوان لأن دماغه أفقياً، وعندما يسجد يصبح نبات لأن جذوره في الأرض فكرة جميلة ومختصرة لم تخطر علي بال أحد ولديهم أيضاً فكرة أنه لا يوجد كائنات أقل من الأخري كلهم لأغراض وكلهم سواء ويتبادلون المنافع والأدوار علي خريطة الحياة كل هذا يغير تفكيرك ويجعلك تستوحي أفكار كثير وكنت قد درست أيضاً الفلكلور الإغريقي عندما يجد أحد متمرد علي الإله يتم تحويله مثلاً لقرد أو ضفدع كعقاب وكذلك في الفلكلور المصري عندما تجدي أمير ذو أخلاق يتحول لحصان ليتعلم القيم النبيلة فهي ليست عقوبة إنما جائزة لإنه يكتسب خبرة، وجدت أن التميز غير موجود بين الكائنات مما أثر في بشدة وأصبحت أختار أثناء الرسم سفراء من من الممالك الحية مثل الحصان ليُمثل طائفة الحيوان والعصفورة لتُمثل طائفة الطيور والمرأة لطائفة البشر والنبتة لطائفة النباتات وفي كل مرة عنصر يكون هو الأساسي أو بطل اللوحة. كثيراً ما أستعين بالذاكرة أثناء العمل وهي طريقة صحيحة للقيام بعمل فني فالفنان عندما تأتيه فكرة ويُصممها أو يُنفذها مطابقة للفكرة فهو يبتكر لأن أهم ما يميز الفنان الموهوب هو أن تكون دائما سجيته حاضرة فيبدأ بفكرة معينة وينتهي بأخري والفن أرض رحبة للإبتكار. لدي مصطلح إسمه الحوادث السعيدة فأثناء العمل أكون معرضاً لأي حادثة قد تُفسد اللوحة فمثلاً دائما ما افكر ممكن أن أزيل بعض الحبر من أماكن معينة وأترك الباقية فتبرز اللوحة بشكل مختلف وتكرار الأمر يجعلك تتعلم من اخطائك ويبرز لديك خبرة جديدة فالعمل الفني عمل إبتكاري وكلما كان ذهن الفنان حاضراً لأي متغير، إستطاع توظيفه بشكل جيد هنا وخرج العمل الإبتكاري الجيد.
لا أحب أن يخرج التمثال بنفس شكل الماكيت ولكن ممكن ان يكون مبدئي ليتبلور أثناء العمل وهنا تطرأ أفكار لتغيير أشياء وهذا ما يميز العمل الفني. نادراً ما تصل الرسالة للمشاهد لأي عمل فني يشاهده فالفن يطرح دائماً الأسئلة للمتابع له مما يعمل علي تنشيط الذهن ويجعله دائماً حاضر بالتساؤلات، الفن ليس لديه رسالة ليوصلها لأحد كل شخص يري العمل طبقاً لمشاعره وإنطباعاته وبحسب إهتماماته أيضاً. ،بالنسبة لي، كل معرض له قصة فعندما أعد المعرض تدور جميع اللوحات حول قصة معينة واذكر في سنة قمت بعمل معرض عن الصيادين وسنة أخري عن عنتر بن شداد. أختار موضوع أكون قرأت فيه كثير وتمعنت فيه وبه خبرات جيدة أريد نقلها للناس فمثلاً إستوحيت فكرة إقامة معرض للصيادين من رحلة في أسوان كنت في فيلة أشاهد الأعمدة وأدرسها وطلبت من بعض الأفراد إحضار سلم لأكون علي مستوي مقارب للعمود أثناء تصويره وفجأة بدا لي النيل بين العمودين وبه مركب بها صياد يتمايل علي الأغاني والموسيقي. وقد كان، تركت الموضوع الأساسي وبدأت ألتقط له الصور ثم ذهبت إلي دمياط لأري إلتقاء النهر مع البحر وكانت هناك فرصة أكبر لرؤية الصيادين وكانت مادة غنية للغاية وأقمت المعرض بعنوان «الصيد في النيل». ليست المصادفة هي ما يُؤثر علي العمل الفني بل الروح الجمالية ولكن هي عندما يكون لديك الإنتباه للتعبير بطريقة جيدة فمن الممكن أن يري شخص آخر نفس المشهد ولا ينتبه لما حدث بداخله فكما قال بيكاسو النحت والرسم لغة بصرية فهي توضيحية أكثر من الكتابة ففيها لغة بصرية فنية تعبر عن موضوع ما ولكن ليست رسالة موجهة لا تعطي معلومة بل تثير الأسئلة أكثر من الإجابات.
يعاني للفنان من حالات دفء وبرودة وفقاً للظروف التي يعيش فيها، أحياناً لا توجد مثيرات تدفعه للعمل وأحياناً يكون خياله فارغ غير حي بل رأيضاً جامح ولابد هنا عندما يشعر بهذه الحالة يترك نفسه للعمل إذ سيقدم افضل ما لديه ولكن إذا واجهته حالة جمود سيعزل نفسه عن الفن لابد دائما من ممارسة الفن كيلا تقف الأفكار الفن. أما أبرز الصعوبات التي تواجه الفنان فهي الخامات عالية الأسعار وإدارة المرسم أيضاً أمر مكلف جداً وبالنسبة لي ليست صعوبات بل وسيلة لإشباع الرغبة بداخلي وتحقيق إنجازات كبيرة ولكن يوجد أفراد ذوي إمكانيات محدودة برغم موهبتهم الرائعة ومن ثم لا يستمروا بسبب العنصر المادي فالفنان لا يعتمد علي موهبته بل لابد أن يكون لديه ثقافة ورؤية وإلمام بكافة أشكال الفنون وكلها أمور تحتاج لإمكانيات.
نواجه صعوبات شديدة في شتي المجلات وليس في الفن فقط فالتحديات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وغيرها تؤثر بدورها علي الفن الذي يتأثر بالظروف المحيطة به والبلد الآن في حالة عواصف فلدينا إرتباك ولكن لدي إيمان بأننا سننهض مجدداً. نعم قلت بل ندرت الأعمال الفنية بالميادين إذ تتكلف جهد وونقود كثيرة لابد أن توفرها الدولة فالعائق لا يقع علي الفنان بمفرده لأنه يتحمل تكلفة مادية عالية. أما علي المستوي الشخصي، فدائماً ما نجد مثل تلك اللوحات والأعمال الفنية في منازل طبقة معينة إذ تتكلف خامات باهظة الثمن وتحتاج لوقت كبير لذا نجدها مرتفعة السعر. الجميع يتحدث بالفن بطريقة مشتركة وهناك إختلاف ممن مكان لآخر بمعني أن كل مجتمع يتبني فن يُناسب البيئة الخاصة به وله أسلوبه في الفن الذي يقدمه فالمجتمعات الباردة لها فن يختلف عن الدافئة وهكذا.
نعم رقابة ذاتية وكل هاوي فن يختار ما يحلو له فكل شخص يعبر عن أفكاره فنحن لا نريد رقابة علي المصنفات الفنية الرقابة تعود للجمهور في المقام الأول والأخير.
أنطلق بصورة حرة في الفترة ما بين المعارض فقد أعيد رسم موضوع أو غيرها من الأنشطة حتي تأتيني فكرة المعرض الجديد وأبدأ العمل علي إعداده وأحضر الآن لمعرض في شهر فبراير القادم ولكني لم أحدد الموضوع بعد. أنصح كل فنان بتنمية موهبته فعليه بالقراءة والإطلاع وتحدي العقبات والحفاظ علي حقه في الإبداع.