في النحت الحديث: الروح مجرد تمثال

يأتى مرادفاً لفن العمارة إذ يضفى تلك اللمسة الجمالية المحببة على التصميم ككل وتضيف إليه أبعاداً جمالية لا غني عنها.. ظهر بوضوح ضمن أعمال أنجلو بمقابر المديتشى بفلورنسا وبكنيسة سان بيتر لبرنيني بروما، ورغم إقتصاره مع منتصف القرن التاسع عشر على زخرفة المبانى، إحتفظ فن النحت بقوته وقدرته على جذب الإنتباه ليفرض وجوده وبقوة من جديد إبان العصر الحديث ويصنع من مبدعيه أشهر الفنانين ممن علقوا بذاكرة التاريخ بأعمالهم الخالدة وإبداعاتهم التي لا تنسي ولا تموت بمزوز الزمن وتوالي الأجيال عليها..

ولعل إزدهار هذا النوع من الفنون شهد أوج قمته وعظمته مع نهاية القرن التاسع عشر إثر ثورة عارمة تناولت عالم النحت بأسره وكذا أصوله وفنونه وكان رائدها وقائدها رودان، والذي يعد أحد أهم مثالي الفن الغربى بعد كلاً من دوناتيللو وأنجلو وبرنينى والذي تلقي تدريباته الأولى بمدرسة للصنايع والحرف وظلت قدرته على التشكيل سراً يميزه.

في النحت الحديث: الروح مجرد تمثال

في النحت الحديث:
الروح مجرد تمثال

وما من شك بأن رودان هو الأعظم علي الإطلاق، فالطين لديه حالة فريدة وإستثنائية وصورة ذهنية تتدفق لأصابعه كما أنه أرسى مقاييس الجمال الحديث إذ كانت ميادين المدن آنذاك مليئة بمجسمات الشخصيات العامة والتي تُضفي عليها كثير من الرتابة والملل، فجاء رودان -آنذاك- بتماثيل واقعية شديدة الإقناع أثارت كثير من الدهشة والإعجاب وأحياناً الإستنكار وربما الإستياء في آن واحد. فعلي سبيل المثال وليس الحصر، أثار عمله الأول «عصر البرونز» كثير من الجدل والمداولات إذ سري اعتقاداً علي نطاق واسع بأنه صبه على نموذج حى معبراً عن المضمون العاطفى والعنصر البشرى لإبراز الأمل والألم ومحدثاً ثورة جمالية ومحدثاً دوياً عالياً لأعماله القادمة والتي لم تفتأ أن تنال إعجاباً وراء إعجاب مما مهد له الطريق ليمُسي بحق رائداً لهذا الفن ومعبراً حقاً وأصيلاً عنه ورائداً تبعه العديد من التلاميذ ممن ساروا علي نهجه وخطاه لاحقاً. وفى أعماله «مواطنو مدينة كالاس» و«بلزاك»، قدم رودان أيضاً نماذجاً غير عادية وغير مسبوقة لما يجب أن تآتي عليه قواعد التفكير بالعمل النحتى والأسس العامة التي لا غني عنها بها.

تلاميذ الأستاذ..
كان إدواى ديما معاصراً لرودان وقام بعدد كبير من المنحوتات لعل أبرزها وأشهرها «الراقصة الشابة» والتي جاءت بواقعية مذهلة تجلت فى تعبير الصبية الشريدة ذات الأربعة عشر عاماً يسكنها الخوف والوجس وكثير من الإضطراب والقلق وتبحث -بكل جوارحها-عن ذلك الأمان المفقود وهو ما جعل العمل شديد التأثير العاطفى والنفسي في الوقت ذاته علي الجمهور المتلقي. ولعل السمة المميزة لأغلب أعمال إدواى ديما تفضيله الواضح لتجسيد صور ومشاهد حياة النساء بوجه عام ولا سيما الراقصات والنساء المستحمات وكذلك الأعمال التي تتناول الخيل في دلالة علي براعته التشكيلية وتعاطفه مع تلك الموضوعات.
هناك أيضاً الإيطالي «ميداردو روس» وكان من تلاميذ الرائد رودان ومن أخلص أتباعه ومن أكثر من تأثروا به أيضاً وكان كذلك من أكثر من برعوا بإستخدام الشمع في تكويناته بوجه عام واستلهم أغلب موضوعات أعماله ومنحوتاته من صور الحياة اليومية وتفاصيلها المألوفة لدينا والتى توحى بالشكل أكثر مما تخلقه فأسطح تشكيلاته -مثلاً- ليست مستوية لكأنه يحاول تشكيل الضوء فيما تكمن أهميته فى تحليل عناصر الأجسام وهو أسلوب جديد يتيح حرية أوسع لمعالجة الشكل معتمداً على الملاحظة الدقيقة.

وهناك من انتهج الحركات الجديدة للفن الحديث كفبوتشينى رائد حركة «المستقبلية» بأعماله «أشكال فريدة فى الفضاء» و«تطور زجاجة فى الفضاء»، وبيكاسو وماتيس وآخرون ممن لم يتقيدوا بمدرسة بعينها بل إستجابوا لحالات مزاجية خاصة وأهواء تستبد بهم بحالات الإلهام والوحي فتتحول بدفق الموهبة أعمالاً خالدة مسهمين فى خلق مفاهيم الجمال الحديثة كما ينبغي -وفقاً لرؤيته الخاصة- أن تكون. كان لرودان أيضاً تلميذاً بدأ تابعاً مخلصاً لرودان ثم ما لبث أن إنحرف عن المسار برغم الموهبة الفذة التي بدت عليه مبكراً ومال بشدة وخرج عن الدرب السليم بتأثير المادة وهو «إميل أنطوان بورديللى»،
أما ميلول، فهو أيضاً أحد تلاميذ رودان الذى بدأ رساماً ثم إتجه للنحت إثر عملية جراحية ليجسد الإناث العاريات بأشكال مبسطة وإنحناءات رشيقة يبدو فيها أثر النحت اليونانى كما أن بصمته واضحة فى النحت الخالى من إثارة رودان الدرامية وكأنها كلاسيكية وعنصر حداثتها هو -في الأساس- الإحساس الكامن بها.

البساطة أولاً..

في النحت الحديث: الروح مجرد تمثال

في النحت الحديث:
الروح مجرد تمثال

ومع رايموند دوتشامب، شهد تاريخ النحت الحديث منعطفاً جديداً إذ تم التحول -بالمدرسة النحتية الحديثة- نحو الإتجاه للأشكال المبسطة ذات التحليل التكعيبى حيث قوة الحيوان والآلة،
وكان الإيطالى أميديو مودليانى، صاحب موهبة نادرة إذ كان رساماً ونحاتاً بوهيمياً منغمساً فى الملذات علي الرغم من إصابته بالسل وكان وسيماً بل شديد الوسامة وزير نساء من الدرجة الأولي ومدمن مكيفات بكل أنواعها وكثيراً ما كان يردد لنفسه وللآخرين بأنه سيشرب ملياً حتى الموت وبالفعل قد كان له ما أراد، إعتبر نفسه أفضل فنان إيطالى علي الإطلاق ونحات فى المقام الأول كما بدا تأثره بفنون العصور الوسطى وعصر النهضة والفن الأفريقى جلياً وكبيراً بجملة أعماله. صداقته مع برانكوزى الفنان الرومانى المقيم فى باريس أثارت شكوكاً بتأثره به إذ ثمة تشابهاً كبيراً بينهما وبين الميول المشتركة التي تجمع ما بين أعمالهما وتبدو واضحة لا تُخطؤها العين بيد أن برانكوزى تطور ليصبح أحد أهم مثالي القرن العشرين بإتجاهه اللافت للتجريد وهو الأمر الذي أثار كثير من الجدل إذ رأى البعض عدم وجود ما يسمى بفن تجريدى من الأساس. ورغم ذلك، دأب الفنان علي عهده فهو يصقل الأشكال ويحورها برؤية تجريدية مع إحتفاظها بالعلاقات المرتبطة بالموضوع الأصلى. وفى «السمك» و«طائر فى الفضاء» نرى الروح والفكرة فى شكل موحد.
ولعل هذا الإهتمام بإستبعاد كافة العناصر الخارجة عن الجوهر ورفض إستخدامها كرمز هو أكثر ما يميز برانكوزى عن رودان الذى أبدى إعجابه ملياً ببرانكوزى وحاول كثيراً إلحاقه كمساعد له بيد إنه لم يُوفق في رغبته لميل الأخير للإستقلالية الكاملة مغرقاً فى الصقل ليبدو العمل -في نهايته- وكأنه صُنع آلة وهي إحدى السمات الجمالية للنحت بالقرن العشرين.
هناك أيضاً السويسرى «ألبرتو جياكوميتى» الذى حظى بشهرة واسعة بإتجاهه للسريالية فى باكورتها ثم هجرها تماماً لتقليص الأشكال وجعلها كالعصا بسطوح خشنة وأحاسيس طاغية بالعُزلة الإنسانية والتي كان من الصعبوبة الشديدة تجسيدها بصورة شديدة الدقة بإمكانها أن تمس القلب والروح والوجدان في آن واحد تعبر عن رؤية صاحبها ومدرسته الفلسفية والنحتية والإتجاه الذي يسير عليه.

ماتيس والمدرسة الوحشية

في النحت الحديث: الروح مجرد تمثال

في النحت الحديث:
الروح مجرد تمثال

لدى ماتيس، إتخذ النحت مُنعطفاً جديداً إذ ركز على المدرسة الوحشية وكان رائدها بتمثال «الصبر» الذى يصور رجلاً عارياً في إشارة لعلاقته بتماثيل رودان «الرجل الماشى» و«البابا يوحنا» و«مواطنو مدينة كالاس». بدا أثره واضحاً في تماثيله البرونزية الأربعة وتمثل ظهر فتاة عارية بتفاصيل شديدة الوضوح والبروز والتمثال الأول يبدو فيه تأثره برودان فيما تميز الثانى والثالث بتداخلات تحليلية فى أشكال أظهرت إستيعابه الكامل للمذهب التكعيبى رغم عدم كونه تكعيبياً. أما العمل الرابع والأخير، فمزيج من البساطة والضخامة فى تشكيلات مترابطة بدقةمتناهية. ربما توقع ماتيس الأسلوب الذى سيسلكه النحت على يديه عندما قابل رودان لأول مرة بيد أنه فى المراحل التالية ترك التفاصيل التى تهدف للشرح جانباً ومال للدمج النابض بالحياة والإيحاء.

فريق تحرير النهارده

نحتاج يومياً لمعرفة كل ما يدور في العالم من حولنا فالأحداث تتلاحق في سرعة كبيرة والموضوعات تتنوع علي نحو بالغ وهناك في كل لحظة العديد من الأخبار والأحداث والموضوعات الجديدة في شتى المجالات التي تهم كافة أفراد الأسرة من نساء ورجال وأطفال وشباب

كل مقالات ElNaharda