كنز المدينة المذهبة

تحمل براغ لقب المدينة المذهّبة التي لا يقاوم سحرها فلكل فصل حكاية تظل صورها عالقة بالأذهان مهما تغيرت ألوانها واستسلمت، جمالها يدهش كل من يزورها وإذا كان فصول شتاء براغ وربيعها وصيفها تتنافس على بسط ألوانها، فلخريفها طابعاً مختلفاً يُدخل من يزورها بعالم كونتيسات مملكة بوهيميا تتمايلن بفساتينهن المزركشة تبحثن عن الحب الضائع ولا عجب في أن تكون براغ مدينة رومانسية لأقصى حدود وألوانها هي أجمل ما يمكن للطبيعة ابتكاره فالأخضر الفاقع يتحوّل ظلالاً لبريق الأصفر والبرتقالي والأحمر مما يجعل من زيارتها رحلة بعالم الحواس وتجربة لا تنسي.

تقع براغ عاصمة التشيك وأكبر مدنها،على ضفاف نهر فلتافا وسط منطقة بوهيميا التاريخية، تلك المدينة العريقة لم تدمر خلال الحرب العالمية الثانية بخلاف كثير من مدن أوروبا الوسطى وظلت وفية للمعمار القديم. بدأ تاريخها منذ أن استوطنت القبائل السلافية منطقة بوهيميا وهو الإسم القديم للتشيك في القرن الخامس وحتى القرن التاسع الميلادي حيث استطاع التشيكيون المقيمون حول براغ فرض سيطرتهم على القبائل السلافية وأصبحت بوهيميا مملكة عام 1085م وكانت براغ مقراً لأول ملك من مقاطعة بوهيميا وهو فارتسلاف الأول وأنشئت قاعة المدينة القديمة عام 1338م وهي من أهم معالم براغ كما أنشئ جسر شارل التاريخي عام 1357م، وفي عام 1526 وقعت براغ تحت سيطرة الهايسبورغ إذ كانت التشيك جزء من النصف النمساوي بالمملكة. وللمدينة عدة ألقاب منها المدينة الذهبية وأم المدن وقلب أوروبا وتعرف بالمدينة ذات المئة برج لكثرة الأبراج أعلي كنائسها وقصورها لذا أدرجتها اليونسكو ضمن لائحة مواقع التراث الثقافي العالمي عام 1992 لما تحتويه من مواقع ذات قيمة ثقافية وتاريخية وتشتهر براغ بمناظرها الساحرة وغاباتها الكثيفة وطبيعتها الثرية التي جذبت الشعوب على مر التاريخ وأوحت لعشرات المبدعين أعمالهم ومنهم موتسارت وبيتهوفن وبيردران وتشايكو فسكي فألفوا أشهر المقطوعات الموسيقية. تأسست براغ في أواخر القرن التاسع ميلادي وازدهرت خلال القرن الرابع عشر ميلادي إبان حكم الملك الروماني تشارلز الرابع الذي أمر ببناء كاتدرائية القديس فيتوس، أقدم كاتدرائية قوطية بأوروبا وجسر تشارلز وهو أقدم جسور براغ وأجملها حيث يجتذب يوميا آلاف الزوار وبني عام 1357بطول 610 متر وعرض 110 متر ويرتكز على 16 عموداً ويصل الطريق الملكي عبر النهر بقلعة هارد شاني كما أنه متحف مفتوح يجمع ما بين الفن القوطي والفن الباروكي ويربط هذا الجسر الساحة القديمة بالمكتبة الوطنية التي تقع بجوارها أول جامعة تأسست وسط أوروبا عام 1348م كما هو الحال بالنسبة للساعة الفلكية الموجودة على مبنى البلدية والتي صنعت قبل حوالي 600 عام.

ولعل أبرز ما يميز براغ سوقها الأثري حيث التحف والقطع المعروضة وموسيقى الشارع بالأزقة الضيقة كما نجد قلعة براغ هرادتشاني وكانت مقراً للملوك وأصبحت الآن مقر الرئيس التشيكي والمقصد الأول لزائري براغ لكونها الأكبر بين قلاع العالم حيث تقع على مساحة 70000 متر مربع وتتكون من عدة مباني ترتبط في شكل هندسي يجذب الأنظار، تم بناؤها عام 870م في محيط واسع على مكان مرتفع يسمح لروادها بمشاهدة المناطق الأثرية الأخرى فضلاً عن كونها مقر الرئيس وتضم القلعة عدد من الأبنية ككاتدرائية القديس فيت وبازيلكا القديس جورج والقصر الملكي الصغير وقصر لوبكوفيتس وقصر روزينبورغ والقصر الملكي الجديد وبرج داليبور والشارع الذهبي ومتحف العرائس والمنزل الأعلى لبورغراف ومدرسة للفروسية ومربط خيل قيصري وحدائق ملكية إضافة لوادي مائي ووادي الآيل كما يعد المسرح الوطني من أبرز معالم المدينة الذهبية وهو بمثابة رمز للحضارة التشيكية العريقة حيث احتضن أشهر العروض الموسيقية والمسرحية منذ القرن التاسع عشر، أما ميدان ستروما نامستي فهو قلب براغ الزاخر بفنون العمارة فأرضه مرصوفة بالأحجار الصغيرة وعليه أعدم 27 من نبلاء التشيك عام 1621بعد الثورة التي قاموا بها ضد أسرة ما يسبورغ النمساوية التي كانت تحتل البلاد وقتها. وبأحد جوانب المدينة توجد قاعة لا تزال تحمل آثار دماء الحرب العالمية الثانية حين فتحت الدبابات الألمانية النيران ودمرت جزء كبير من المدينة وأحرقت جزء من الساعة الفلكية التي تم بناؤها في القرن الخامس عشر ميلادي وتضم ست ساعات متداخلة يعود تاريخها لعام 1410م وتتكون من ثلاثة أقسام مستقلة وهي الجهاز الذي يحرك القديسين، دائرة لقياس الزمن والثالث لتقويم الشمس إضافة إلى ساعة لأبراج النجوم وأخرى لفصول السنة الأربعة والأخيرة لبزوغ وأفول القمر وأمام بوابة الجسر، تتوسط المدينة القديمة ساحة بان هوس حيث النصب الحجري الضخم بسلالم دائرية يجلس فوقه الزوار والعابرون.

ليس أجمل من بدء جولتك بزيارة المسرح الوطني أو جوهرة براغ وهو اللقب الذي يعكس جمال الهندسة المعمارية الباروكية وتستحضر كثير من وحدة التشيكيين الوطنية فمشروع بناء المسرح يعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر وتم وضع اللمسة النهائية على المسرح في أغسطس 1881قبل إندلاع حريق دمّر معظم المبنى بيد أن التشيكيين لم يقفوا عاجزين وبدأوا حملة تبرّعات وساهم الجميع بأموالهم وكانت النتيجة مليون فلورين جُمعت خلال 47 يوماً وتولي المعماري جوزيف تشولز إعادة بناء المسرح وتوحيد ثلاث مبانٍ بأسلوب معماري متناغم وأعيد إفتتاح المسرح في نوفمبر 1883 بعرض أوبرا ليبوسا لبيدريش سميتانا والذي ألفّها لهذه المناسبة. بعد المسرح، ستغريك هضبة بيترين للصعود إليها للإستمتاع بمشاهد براغ. ربما تكون ممن لا يفضل الصعود سيراً علي الأقدام فيمكنك ركوب القطار الجبلية والصعود للهضبة حيث مشهد يخطف الأنفاس وفي لحظات التأمل قد يباغتك سنجاب يتسلّق شجرة مورقة أو يقف أمامك وجهاً لوجه ينتظر أن تضع أمامه قطعة حلوى أو بسكويت يلتهمها بسرعة ويختفي فالسناجب لا تزال خجولة وتتجنب الإتصال المباشر مع الزوّار. تضم رابية بيترين متنزه الوردة الرحب ويلجأ إليه الكثيرون لمراقبة غروب الشمس حين يزداد تدرّج الألوان الذهبية حدّة فتشعر بأنك أصبحت تفصيلاً في لوحة طبيعية لا تود الخروج منها فتكمل المسير حتى تبلغ برج المراقبة المعروف ببرج إيفل براغ فتصعد 299 درجة لتصل لقمته وتستمتع ببانوراما براغ حيث التاريخ عند ضفتي نهر فلتافا يربطهما جسر شارل الذي اصطفت منحوتات على جانبيه وكأنها شخوص لا تمّل تأمل جمال المدينة فيما يبدو الجسر معلقاً يجمع ضفتي المدينة وروائع الفن الباروكي والروماني والقوطي والقروسطي والحديث والفن التكعيبي. أما قصر براغ فيعود للقرن التاسع وكان مقراً لملوك بوهيميا وأساس ظهور براغ على خريطة أوروبا الوسطى ويضم جواهر التاج البوهيمي بغرفة سرية. يضم القصر مبانٍ جمعت بين النمط الباروكي والرومانسك المتميز بأقواسه نصف الدائرية كاتدرائية القديس فيتوسو وكنيسة القديس جورج وعدد من القصور والحدائق والأبراج الدفاعية والمتاحف منها المتحف الوطني ويعرض مجموعة من المعروضات البوهيمية والباروكية ومعرض تاريخ الجمهورية التشيكية ومتحف اللعب ومعرض صور القلعة المستوحاة من مجموعة رودولف الثاني فيدخلك المتحف المفتوح على الهواء في تفاصيل براغ بتاريخها المترف.

ليس أيضاً أجمل من التجول على جسر تشارلز حيث تتراءى براغ كحسناء بوهيمية تفرش ألوانها على صفحات نهر فلتافا وتستعرض روائعها النادرة بعشرات المتاحف وصالات العرض والكنائس التي تأسرك قبابها الذهبية وأسقف بيوتها القرميدية. إتبع رائحة القهوة الطازجة وإسترخ بأحد المقاهي الشهيرة بشارع تسيروكا حيث مقهى كافكا أديب براغ الوجودي ولا تتردد في تناول كريب الفواكه «بالاسينكا» مع القهوة أو سر علي نهج ألبرت آينشتاين الذي درّس بجامعة براغ وكان يرتاد مقهى لوفر مساء كل ثلاثاء وهو المقهى الذي يعود تاريخه لعام 1902 وكان ملتقى الفنانين والعلماء والسياسيين ونساء الطبقة البرجوازية وتحوّل لحصن دعم تحرّر المرأة كما أنه ملتقي لمحبي الجاز. عزف أهل التشيك كل أنواع الموسيقى من الكلاسيكية للبانك مروراً بالجاز وظلت براغ في غموض فصولها ومتاهة أروقة تاريخها، إنها مدينة تضج بالموسيقى والفن وحب الحياة ترتدي ألوان الفصول بدون تردّد، إنها بالفعل مدينة فاتنة لا يمكن الإنفلات منها.

gallery_0335889001442349338_1

فريق تحرير النهارده

نحتاج يومياً لمعرفة كل ما يدور في العالم من حولنا فالأحداث تتلاحق في سرعة كبيرة والموضوعات تتنوع علي نحو بالغ وهناك في كل لحظة العديد من الأخبار والأحداث والموضوعات الجديدة في شتى المجالات التي تهم كافة أفراد الأسرة من نساء ورجال وأطفال وشباب

كل مقالات ElNaharda