جاردن سيتي قصة الحي الراقي

عندما يلتقي جمال المعمار ورحيق الزهور ونخبة المجتمع، يقفز للذهن حي جاردن سيتي الذي خرج من وسط الحدائق ليطل على النيل في حوار أرستقراطي كلمته منتقاة وصوته يعكس رقي المكان والزمان معاً.

تعود التسمية لنشأة الحي من قلب عباءة مزهرة وأشجار تظلل المكان. أول من إكتشفه كان السلطان الناصر محمد بن قلاوون فزرع فيه الزهور والأشجار وشق الطرق وسط المياه وشيد المتنزهات وحدائق «بساتين الخشاب». بدأ الحي يأخذ ملامحه عندما حكم الخديوي إسماعيل البلاد وأراد تحويل القاهرة لمدينة راقية تحاكي مدن الغرب. قرر الخديوي بعد عودته من أوروبا عام 1863 تنفيذ مشروعه الكبير «باريس الشرق» أو القاهرة الخديوية وإختار منطقة وسط البلد حالياً وضواحيها كجاردن سيتي والزمالك وشيد قصر عابدين وإتخذه مقراً لحكمه كما شيد قصور فخمة بإمتداد كورنيش النيل أشهرها قصر الدوبارة وفخري باشا والأميرة شويكار وجميعهم خليطاً من المعمار الإسلامي والباريسي والايطالي،

جاردن سيتي قصة الحي الراقي

جاردن سيتي قصة الحي الراقي

ترجع خصوصية الحي لطبيعة ساكنيه من الطبقة الأرستقراطية التي شكلت المناخ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي قبل ثورة 1952، كان أبناء الأسر يعرفون بعضهم البعض وتربط علاقات إجتماعية بين الهوانم وجلسات الإقتصاد والسياسة بين الباشوات والبكوات من أهل الحي الذي فضل أن يتوارى حالياً وراء ما تبقى من حدائق الزهور التي كانت بذورها تستورد من إيطاليا كالجارونيا والبونسية والتوليب الفرنسي وعصفور الجنة النمساوي. لا يزيد إرتفاع المساكن عن خمسة طوابق وتقع العمارات بداخل حديقة مُحاطة بسور من الحديد الأسود اللامع تتسلل عليه أغصان الياسمين وتطل من ورائه أشجار الكافور العملاقة وكان سكانها يحضرون الجناينية لتهذيب الأشجار وأغصان وزهور الياسمين التي تعطر مداخل البنايات التي تبدأ ببعضة سلالم رخامية مزخرفة وتنتهي بباب حديدي أسود المشغول على الطريقة الفرفورجيه الفرنسية فيما يُبطن الحديد المشغول يدوياً بزجاج مشطوف زخرفي غير شفاف، يفتح الباب العملاق على مساحة عرضية تعكس درجات لدرج رخامي مزركش وتنتهي بالمصعد الذي يحاكي بابه بوابة العمارة.

لا تقل مساحة أي شقة عن تسع أو عشر حجرات أرضيتها من خشب الباركيه الأرو وأبوابها من الزجاج غير الشفاف وثلاث أو أربع حمامات وكل حجرة بها بلكون بحجم الحجرة، المطبخ مُتسع وينتهي ببلكون كبيرة وبه أوفيس لخزين البيت كله، وللمطبخ باب منفصل مُخصص للباعة والخدم. بكل بناية سطح به حجرات للخدم والسائقين وحجرات للغسيل قبل دخول الغسالات الكهربائية مصر في أواخر القرن التاسع عشر ومنه تتم مشاهدة الألعاب النارية التي تُطلق في المناسبات وهو مكان لتجمع الخدم وأغلبهم يأتون من عزب الأرستقراطيين.

بجوار كل بناية عامود نور ينتهي بفانوس سداسي الشكل وأثاث المنازل من الطراز الكلاسيكي، فصالونات الضيوف من الأوبيسون الفرنسي «بيتي بوان»، وعلى الجدران تابلوهات الجوبلان الفرنسي، أما السجاد، فشيرازياً من الصوف اليدوي أو الحرير الإيراني والمفارش من السيرما تغطي جزءاً من الترابيزات المصنعة من خشب الورد والمنحوتة يدوياً، مرايا بلجيكية تتناثر بالمدخل بجانبها شماعة إنجليزية الطراز من خشب الماهوجني لمعطف وطربوش الباشا والعصا الأبنوسية التي تنتهي بحلية من الذهب الخالص. وكان للشماعات كل الفخر بأن يعلق عليها «الفورير» الفرنسي «الرينار» وهو الفراء الذي تتركه الهوانم من الضيوف قبل دخولهم لقاعات الصالونات بالمنزل. بكل منزل أيضاً ترابيزة بدورين مخصصة للشاي بالدور الأول منها توضع الأطباق الكريستالية بها حلويات من أرقى فنادق الحي، أما طقم الشاي فمن الفضة الإنجليزية والسكر يأخذ شكل المكعبات يرفع من السكارية بملقط من الفضة ليستقر بفنجان شاي من السافر الفرنسي.

يمتاز الحي بطقوس إجتماعية تشمل مجتمع الزمن الجميل زمن الست أم كلثوم التي لابد وأن تملأ البيت بصوتها بإسطوانة سوداء توضع على الجرامافون وهو من القطع الأنيقة وغالباً ما يكون بالمدخل. أغلى أنواع الشوكولاته السويسرية والفوندون الفرنسي والملبس البلجيكي وراحة الحلقوم التركية جميعها تستقر بداخل علبة كبيرة من الفضة المشغولة يدوياً والمُبطنة بالمخمل في لون الزهور أو لون العاج. علبة أخرى بجوارها من الصدف والفضة وخيوط الذهب تحتضن السيجار الكوبي الذي يكمل وجاهة الباشا وعلبة مماثلة بحجرة مكتبة ولها باب منفصل يفتح على سلم المنزل الرئيسي وهي مُخصصة للأصحاب المقربين. ينتهي كل شارع بميدان صغير تصطف فيه ثلاثة تاكسيات مع سائقيها ممن يعرفون أهل الحي جيداً يستخدمونها في حالة غياب السائق للأسرة، وبداخل التاكسي تدور الحوارات السياسية والإجتماعية. كانت الطبقة الدنيا وقتها مثقفة. أحياناً يذهب الخادم الثاني في ترتيب خدم المنزل لإحضار التاكسي للبيك أو الباشا، وبحركة سينمائية يلقط الخادم العصاة الأبنوسية من يد الباشا ليصعد للتاكسي المرتفع نسبياً من طراز إنجليزي قديم، ولا ينسى الخادم المهذب أن يدعو لسيده بيوم جميل، ويوصي سائق التاكسي بالتمهل حرصاً على صحة ومقام الباشا.

جاردن سيتي قصة الحي الراقي

جاردن سيتي قصة الحي الراقي

حول جاردن سيتي وعلى النيل مباشرة شُيدت عدة فنادق على الطراز الانجليزي والايطالي أهمها فندق سميراميس القديم ذو التراس الرخامي الذي كان يقف فيه حول فنجان الشوكولاته الساخنة وحبات الفوندون كبار كتاب هذا الزمان، فرواية «أين عقلي» لإحسان عبدالقدوس كتبها في تراس سميراميس ويوسف السباعي كتب «نادية» في التراس نفسه على أنغام الفالي والتانجو وعبق الشوكولاته الساخنة والقهوة التركي والسحلب الدمشقي. «أجمل لحظات الراحة النفسية أجدها في شبرد»، هكذا قال سفير دولة بلجكيا وقتذاك وكان يحجز لنفسه جناحاً خاصاً طوال العام وهو الفندق الذي تميز بنزول كبار الرؤساء والملوك فيه من أمثال تشرشل وروزفلت ويُطل على النيل مباشرة وتعود ملكيته لصموئيل شبرد الإنجليزي، صاحب شركات شبرد ويحتوي الكتاب الذهبي للفندق على توقيع كبار الشخصيات العالمية التي زارت مصر وفُتنت به وبحي جاردن سيتي. هذا وتستقر بشموخ في حي جاردن سيتي مدارس الأرستقراطية كالماردي ديو والمدرسة الألمانية التي يدخل الأوتوبيس المرسيدس العملاق شوارع الحي لإصطحاب الطالبات وكان السفرجي أو البواب يحمل لهن حقائب المدرسة ويلقي الصباح على السائق ويدخل كل منهما في حوار قصير لا يخلو من الضحك مُتمنياً صباح جميل. وفي الظهيرة يُعاد المشهد نفسه، ولكن بتدخل الهوانم الصغار ويسألن عن الطعام. بالحي العديد من البنايات تحمل بين طياتها قصصاً وأساطير كعمارة سيف الدين العملاقة بلونها الزهري وتُحاكي عمارة يعقوبيان وعمارة شويكار التي شُيدت بجوار قصر البرنسيس شويكار بشارع معمل السكر وهي عمارة عملاقة لونها رمادي فاتح تمتاز بالعمدان الكبيرة، تم تصوير عدة أفلام بها ومنها النداهة وأنف وثلاثة عيون والبيه البواب.

يتميز الحي أيضاً بمحلات بيع الزهور الطبيعية المستوردة من هولندا وكان هناك تقليد جميل فكل أسرة يصل إليها بوكيه من الزهور أسبوعياً مقابل إشتراك شهري لا يتعدى جنيهان مصريان في أربعينات القرن الماضي. وكان الحي يتميز خدمة «صباح الخير» والتي يتميز بها جروبي فيحمل مندوبه الحليب كامل الدسم والقشدة وساندويتشات الخبز والزبادي يومياً في السادسة صباحاً، مقابل ثلاث جنيهات مصرية وقتذاك.

فريق تحرير النهارده

نحتاج يومياً لمعرفة كل ما يدور في العالم من حولنا فالأحداث تتلاحق في سرعة كبيرة والموضوعات تتنوع علي نحو بالغ وهناك في كل لحظة العديد من الأخبار والأحداث والموضوعات الجديدة في شتى المجالات التي تهم كافة أفراد الأسرة من نساء ورجال وأطفال وشباب

كل مقالات ElNaharda