حكايات سور الأزبكية

إسمٌ يتردد على ألسنةِ الكُتَّابِ والمثقفين فلا يوجد في مصر مُثَقَّفٌ إلا وزاره مرةً على الأقل مهماً كانت مقدرته المالية. هذا السور العريق الذي شكل لسنواتٍ طويلةٍ منزلةً خاصَّةً لدي الجميع داخل مصد وخارجها. كانت كتبه المصدرَ الأوّلَ للكُتّاب والمفكرين فهو بمثابة المعرض الدائم للكتاب بقلب القاهرة ولا ينافسه سوي ضفافُ نهر السين بالعاصمة الفرنسية. إنه سور الأبكية الذي يُشع منذ بدايته وعلي مدي أكثر من ‬106‬أعوام كعلامة ثقافية بارزة بكتب ودراسات ولوحات‮ ‬ومُشكلاً حلاً عبقريا‮ً ‬لرقة أحوال كثير من الأدباء والمفكرين والصحفيين في توفير زاد ثقافي في بداياتهم الأولي ووعشق دائم لإكتشاف مجاهل كتب ‬قديمة‮ احتفظت بها مكتبة هنا أو هناك‮‮ ‬أو إرث حمله أصحابه للسور ليجد به الموهوبين ضالتهم في كتب لها رائحة الزمن وألوان الماضي‮ ‬وثبات الغد‮.‬

يتمتع السور بأهميةَ خاصة لدى مثقفي مصر والعالم العربي وربما الأجانب حتي أن الأديب سليمان فياض في برنامجه الإذاعي من سور الأزبكية أطلق عليه «جامعة الفقراء» حيث يجد الراغبون في القراءةِ من الفقراء ضالَّتَهُم بأسعار زهيدة. تردد عليه الجميع فيُذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يتردد بنفسه على عليه لإقتناء الكتب وكذلك الرئيس أنور السادات والذي كان من رواده قبل أن يُصبح رئيساً لمصر وبعد أن أصبح رئيسًا لها. وبمرور الزمن، أمسي السور المنبر الذي يُسهم في تشكيل خلفية المصريين الثقافية لما تحويه مكتباته التي يبلغ عددها 133 مكتبة تزخر بأمهات الكتب كما يزخر بباعة المجلات والصحف القديمة التي تُؤرخ لتاريخ مصر.
يعود عُمر منطقة الأزبكية لأكثرَ من سبعةِ قرون وقد سُميت بإسم الأمير عز الدين يزبك، قائد جيش السلطان قايتباي الذي قام بتجميل منطقة الأزبكية وجعلها حديقة للقاهرة بها بركة الأزبكية واستمرت كذلك حتى أمر الخديوي إسماعيل بردمها وأقام على جزء منها دار الأوبرا للإحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل إفتتاح قناة السويس إذ كانت بركة قديمة تبلغ مساحتها حوالي 60 فدانًا ورُدِمَت عام 1864 وكلف الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي ديشان مسئول بساتين باريس بإنشاء حديقة علي مساحة20 فداناً وزُوِّدَتْ بنحو 2500 مصباح غاز. ظلت حديقة الأزبكية علي عهدها برغم التغييرات التي طرأت عليها بسورها الحديدي الأسود والذي تم هدمه مع بداية ثورة يوليو 1952وتحولت الحديقة لمنتزه عام وتمت إقامة سور حجري مكان السور الحديدي الذي تحول لمكتبات ثقافية تحولت بمرور الوقت لمنارة إشعاع فكري وثقافي وتدريجياً تحول المكان لمعرض دائم ومفتوح للكتب القديمة. قبل إنشاء السور، كان باعة الكتب يطوفون بالكتب حتى بدأوا في إفتراش الأرض بالكتب بميدان العتبة وبمحاذاة حديقة الأزبكية.

حكايات سور الأزبكية

حكايات سور الأزبكية

كانت البداية عام 1907 بذلك الشاب الصعيدي الذي إختار أن يأوي لظلال أشجار حديقة الأزبكية‮ ‬التي تحتل قلب ميدان العتبة‮ ‬ليستريح قليلا‮ً ويأخذ تعسيلة نهار في هدوء لا يختلف كثيراً عن قريته البعيدة والتي هرب منها فراراً من فقر الصعيد باحثاً عن لقمة عيش له ولأسرته. كان يحلم بقرشين ‬ليعود لجذوره القديمة ببلدته البعيدة. وجد الشاب ضالته في بواقي مكتبات الفجالة ليبدأ رحلة بيع الكتب للراغبين‮ ‬أو المتكاسلين أو من فاتهم قراءة كتاب‮.‬بسعر لايزيد علي قرش صاغ‮‮. ولما كان ‬زبائن المقهي هم عملائه الأساسيين سواء المترديين عليها لشرب القهوة والشيشة‮ أو المترددين علي المصالح الحكومية المتمركزة بتلك المنطقة حيث جلسات الأصدقاء ونقاشات المثقفين وتجمعاتها. وفي يوم ما، أراد أن يأخذ تعسيلة فنام تحت ظلال الزيزفون‮ وتناثرت الكتب من حوله علي نحو لفت إنتباه بعض المارة فقاموا بالشراء ‬مما شجعه علي الإستمرار بهذا الموقف بقلب ‬طرق القاهرة ‬وعنوان ثابت يعرفه الجميع بدلاً من صدفة لقائه متجولاً أم لا‮. ‬وبمرور الوقت، أضاف للفرشة بعض‮ ‬المجلات الأجنبية المنتشرة آنذاك ‮‬وإستقرت تجارته ‬مابين الحركة أحياناً والإستقرار في أغلب الوقت ‬عند سور الأزبكية ‬بالمنطقة الملاصقة لدار الأوبرا الخديوية والتي يرتادها ليلاً الأكابر والأفندية وجميعهم متعلمون أقبلوا علي تجارته التي راجت وبشدة.
أغري نجاح هذا الرائد‮ ‬بعضاً من أقرانه وأقاربه وشباب المدينة والمحافظات الأخري‮، ‬فإستقروا بجوار بعضهم البعض‮ وتحول الأمر من مجرد فرشة بائع لسوق كامل و‬مُكونين أول سور ثقافي بالمنطقة العربية بأسرها. ‬وبطريقة الشهامة الصعيدية وجدعنة أولاد البلد،‮ ‬إختار الجميع عدم التنافس علي لقمة العيش بل تقاسمها بشرف ‬فإختاروا أنواع وتخصصات مُنوعة تحقق التنوع للزبون وليس بها منافسة بين البائعين ومن ثم ظهر المتخصصون بالمجلات أو الكتب العربية والبعض الآخر بالمجلات والكتب الأجنبية ‬ثم ظهر المسرح وهكذا.

وبرغم مكانة السور ورواج منتجاته الثقافية، إلا أنه ولسنوات طويلة لم يحظ بإهتمام من قبل المسئولين فتعاملت معهم أجهزة بلدية‮ ‬القاهرة علي أنهم «‬بياعين سريحة» يزحمون المكان القريب من الأوبرا الخديوية التي يرتادها الأمراء والأميرات والخديوي ذاته فواصلوا مطاردتهم كلما سمح لهم‮ ‬الأمر بذلك، ‬خاصة إذا تعلق الأمر بتأمين الحفلات التي يحضرها الأكابر. ‬ولم يجدوا أجدي من خراطيم مياه المطافي لطرد البائعين ممن ‬يهرعون ببضاعتهم الورقية خوفاً عليها من البلل ‬ومن ثم ضياع ثروتهم الضئيلة،‮ ‬التي كانت‮ ‬لاتزيد علي جنيه واحد أو أكثر‮ ‬بالإضافة إلي أنهم بمرور الوقت كانوا يعرضون الكتب المعارضة لنظام الحكم والمُحرضة علي الثورة والتطوير. وطال بهم الزمن طويلاً حتي عام ‮٩٤٩١وكانت تجارتهم قد استقرت وأصبح لها رأس مال‮ ‬وزبائن ثابتين فتوجهوا جميعاً وكان عددهم ‮٣١ ‬بائعاً لمجلس‮ ‬الوزراء وإلتقوا برئيس الوزراء آنذاك مصطفي النحاس‬الذي تعاطف معهم وأصدر أمره إلي فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية ليُصدر لهم تراخيص‮ ‬ثابتة لمزاولة المهنة ومنع تعرض بلدية القاهرة لهم‮ ليكون بذلك رسميا‮ً ‬أول سور للكتب في الأزبكية‮ ‬وأحد أهم المعالم الأثرية والفنية بالعاصمة‮.‬

وخلال عام ‮٩٥٩١وبعد قيام ثورة يوليو 2591، إستقرت أنظار مسئولي بلدية القاهرة ممن بدأوا بعمل تطوير شامل للمنطقة وفكروا في ‬التخلص من السور لإعادة تجميل‮ حديقة ومنطقة الأزبكية وتنظيم زحامها ومرورها فما كان من البائعين إلا أن لجأوا إلي الدكتور عبدالقادر حاتم، مدير مكتب‮ ‬الرئيس عبدالناصر آنذاك ‬وشرحوا موقفهم الذي نقله للرئيس‮. ولأن عبدالناصر كان من رواد السوق ومعه كثير من أعضاء مجلس قيادة‮ ‬الثورة، أمر بتنفيذ أكشاك خشبية للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار تصاريح‮ ‬رسمية لهم بمزاولة‮ ‬المهنة‮ ‬بشرط ألا يغيروا نشاطهم‮ ‬وأهداهم الأكشاك. وكان للسور ‬نصيب الأسد ‬في نهضة الستينات الثقافية ومطابع تُصدر كتاباً كل ست ‬ساعات‮ ‬وتزايد الإقبال‮ ‬علي التعليم ‬وظهور نشاط بعض السياسيين المثقفين وحركة أدبية زاهرة وإعلاء قيمة الثقافة‮ ‬فتنامت التجارة حتي بلغ البائعين‮ ٠٣١ ‬تاجر كتب‮ ‬أي تضاعفوا عشر مرات‮.‬

لكن الرياح لاتأتي دوماً بما تشتهي السفن ‬ففي عام ‮٣٨٩١ ‬تم هدم السور ونقله لسور السيدة زينب بسبب أعمال وضع أساسات كوبري الأزهر ‬وهو الأمر الذي استمر لمدة خمس سنوات عندما صدر حكم محكمة القاهرة،‮ ‬لصالح التجار ضد محافظ القاهرة للترخيص لهم بالعمل في السور وقد عادوا بالفعل ولكن للخلف قليلاً فقد اقتطع الكوبري جزء من أماكنهم وتكرر الأمر عام ‮٣٩٩١ ‬ولمدة أربع سنوات عندما بدأ في أعمال إنشاء محطة‮ مترو الأنفاق بميدان الأوبرا ومن ثم تم نقل التجار لمنطقة الحسين بجوار مستشفي الحسين الجامعي وعلي مقرُبة من المقابر فتواروا عن الأنظار حتي عادوا من جديد عام ‮٨٩٩١. لعل تلك الفترة الأخيرة كانت من أهم الفترات فائدة علي قراء القاهرة فقد بدأ بعض التجار يتحركون ببعض الكتب علي أرصفة القاهرة خاصة في تجمعات حركة المرور في الإسعاف ورمسيس وبعض شوارع وسط البلد فأصبح هناك سوق وسور أزبكية مصغر هنا وهناك وجد كثيرون فيه ضالتهم بل واستقروا بعد ذلك رغم عودة السور إلي موقعه القديم.

تم تصميم أكشاك علي النظام الفاطمي وتمليكها لأصحابها ممن نُظموا في صفوف ‬واشترطوا عليهم عدم تغيير النشاط خاصة وأن تجار السوق في فترة من الفترات انساقوا وراء متطلبات السوق من شرائط كاسيت وبضائع أخري بجوار الكتب وهو الأمر الذي إستنكره رواد السوق. وفي ظل التدهور الطبيعي الذي نحياه اليوم، فما يحدث للسور من محاولة نقله لرابع مرة من مكانه بسبب الخط الثالث لمترو الأنفاق هو شيء متوقع وطبيعي‏ حيث أن كل شيء في هذا البلد يُمكن أن يطغى على الثقافة وهذا هو وضع الثقافة في مصر في هذه الأيام وللأسف الشديد حيث تحولت كثير من المكتبات الشهيرة بمنطقة وسط البلد بالقاهرة إلى محلات لبيع الأحذية ومثال ذلك المكتبة الفرنسية الشهيرة التي كانت تقع بمنطقة وسط البلد ثم تحولت فجأة لمحل لبيع الأحذية!!. فإذا كان هذا قد حدث مع دار الكتاب الفرنسي، فماذا يُمكن أن يحدث مع سور الأزبكية الذي لا يتبع أصلاً أية وزارة؟

فريق تحرير النهارده

نحتاج يومياً لمعرفة كل ما يدور في العالم من حولنا فالأحداث تتلاحق في سرعة كبيرة والموضوعات تتنوع علي نحو بالغ وهناك في كل لحظة العديد من الأخبار والأحداث والموضوعات الجديدة في شتى المجالات التي تهم كافة أفراد الأسرة من نساء ورجال وأطفال وشباب

كل مقالات ElNaharda