برغم تواجده بالقاهرة طويلاً، إلا أن ملامح النوبة لم تفارق وجهه، يحدثك عن الحاج أحمد منيب فيجعلك تتمني مقابلة هذا العملاق فعدما أسأله عن أحمد منيب أجده يسرح وكأنه يراه. إلى الآن لم ينسى أياً من كلماته. علاقتهما أباً وإبناً لا يمكن وصفها بالكلام، عندما يكون بضيق، يستمع لأياً من اغانية فيجده يتحدث إليه ويرشده. منتج فنى وشاعر.. على يده تأسس منيب باند.. هو إبن العظيم أحمد منيب، تحدث خالد مني، فماذا قال؟
منيب باند.. الأصل وراء الفكرة
منذ وفاة الراحل أحمد منيب وأنا أقوم كل عام بإحياء ذكراه فكان لا يوجد معى فرقة أو أى شئ بل فقط روح أحمد منيب وهو ما كان يشجعنى على الإستمرار فى إحياء ذكراه. وكان يأتى إلىٌ العديد من الضيوف والفنانين سواء كانوا محبين له أو من فنانين جمعنهم معه أعمالاً مشتركة. بدأت التفكير فى «منيب باند» أثناء تحضيرى للذكرى العشرين لأحمد منيب وما شجعنى أكثر على وجود الباند هم الشباب أنفسهم أصحاب الخامسة عشر عاماً ممن لم يعاصروا أحمد منيب وأجدهم يتغنون بأغانيه، ففكرت لماذا لا تكون أغانى منيب ميراث لهؤلاء الشباب؟ وهم بدورهم سيهبونه لأولادهم فيما بعد. فكرة الباند جاءت لأجل إستمرار أحمد منيب وإلقاء الضوء على موسيقاه. موسيقى منيب تحمل عبقرية، لا أقول هذا لكوني إبنه ولكن أشاد العديد من متخصصى الموسيقىى بأن موسيقى منيب بها عبقرية عظيمة وهي فى الوقت ذاته سهلة وبسيطة. تعرفت علي عبدالله مغني الفرقة حالياً عن طريق الصدفة فقد كنت أبحث عن أصوات جديدة وبالصدفة علمت أن أحد أصدقائي لديه إبن يملك صوت يشبه صوت منيب وذهب للجيش وبعد إنتهاء مدته الجيش تقابلنا وتم ضمه للفرقة فعبدالله يملك صوت جميل ولديه روح قريبة جداً من روح أحمد منيب فهو بمثابة الإبن بالنسبة لي. الباند يعتمد على ألحان أحمد منيب التى تغنى بها أو التى قدمها لمطربين آخرين أمثال محمد منير وعلاء عبد الخالق وحميد الشاعرى وإيهاب توفيق ومحمد فؤاد وهشام عباس وحنان ومنى عبد الغنى وغيرهم ممن عاصره. ويعتبر أحمد منيب هو رائد الأغنية البديلة والشبابية منذ عام 1978وقد أُطلق عليه الأب الروحى للأغنية الشبابية وتم عمل كتاب عنه بعنوان «أحمد منيب، رائد الأغنية البديلة». موسيقى منيب تعتمد على الإيقاعات النوبية ودفء الجنوب. أعضاء الفرقة هم أنا كمدير والمطرب عبدالله عادل وشهاب الدين، ترومبيت وأحمد خالد على الدرامز وأحمد مندور بيز جيتار وعلى الكمان بدر وهو الآن فى برنامج »إكس فاكتور» وعلى العود مصطفى لطفى ومحمد كوله ومحمود تكا ومستونيكل وأمادو واصلي وهم أولاد خالة وهو ما يفسر حالة التناغم بينهم. ولمنيب باند هدفين، الأول هو إستمرار إسم منيب والثانى هو كون الباند ليس مجرد فرقة ولكنه مدرسة لتدريب الأصوات. أى تجربة ناجحة يجب أن يكون لها نتائج ملموسة، فأنا أقوم بإختيار أصوات للغناء بالحفلات ووجدت صوت وإثنين وثلاثة وهكذا وتم تقديمهم للجمهور عبر الحفلات وحتى إن وجدتهم أظل أبحث عن الأفضل حتى أكون مقتنعاً بالفكرة فالمنتج يجب أن يكون مقتنع50% حتى يقوم بالإنتاج وال50% الأخرى توفيق من الله. قررت أن أجعل من الباند مدرسة تخرج أصوات جيدة فالإرث ليس فقط أغانى تسمع وإنما تقديم أصوات جيدة.
بين الباند.. وصوت منيب
إطلاقاً لم أفكر أصلاً بهذا الأمر فنحن والجمهور فى حالة ونس وتلك هى الحالة التى نعرفها عن الحاج أحمد منيب. فعندما يستمع أحد لأغانى منيب يشعر وكأنه يغنى له مخصوص فالحالة التى خلقها منيب بينه وبين الجمهور لا تجعلنى أقلق بل على العكس تماماً، عندما يأتي الجمهور للحفلات فنحن من نغنى معهم وليس العكس فلم أجد من يقول سأسمع تلك الأغنية بصوت الباند لا بصوت منيب. فهم يأتون للحفلات لأجل أغاني منيب التي يحبونها فلديهم فكرة مسبقة عن منيب. أعتقد أن هذا هو النجاح بأن تجد الجمهور هو الذى يغنى وأنت من تغنى معه فالحاج أحمد منيب حالة من الونس والشجن خليط من المشاعر فهو يغنى لك وحدك ويغنى لنا بنفس الوقت. هناك كيمياء خلقها منيب يصعُب خلقها مرة أخري.
منيب.. الوجه الآخر
أحمد منيب كان كتاب مفتوح للجميع، ولكن من الأسرار التى لا يعرفها أو يتوقعها أحد كونه لا يستمع للراديو تماماً. رغم إحترامه للفنانين إلا أنه كان لا يستمع سوي لموسيقاه. لا أذكر أننى شاهدته يوماً بجانب الراديو وربما كان هذا هو ما جعل كلماته وموسيقاه مختلفة. من أسراره أيضاً تمنىه أن يقوم محمد الحلو بالغناء من كلماته إذ كان يري فى الحلو مشروع فنان وصوت جميل وكان أيضاً عاشق لشكوكو. الحاج منيب مثله كأي أب وزوج فى البيت فأحياناً يكون سى السيد وأحيانا يكون أسهل شخص، هو صديقى حيناً ووالدى الطيب والشديد في أحيان أخري. لم أقل الفنان أحمد منيب وإنما الحاج أحمد منيب فهي أشمل وأعمق وهذا هو أحمد منيب.
منير ومنيب.. تجربة حية لا تموت
تجربة محمد منير مع أحمد منيب تتلخص فى كلمة واحدة «البر» فآخر حرف فى منير «الراء» وآخر حرف فى منيب «الباء» تجدى البر، الحالة بينهم كانت حالة أب وإبنه، حالة لا توصف بالكلام تماماًً وإنما بالمواقف فيما بينهم. فأحمد منيب كان دائم القول أنا بشوف نفسى فى منير، وهكذا كان يقول منير أيضاً فمنيب كان المطرب المفضل لمنير لأن موسيقاه مختلفة حتى عن المجتمع النوبى ولا يوجد لها شبيه. منيب كان أول شخص فى النوبة يلعب آلة العود ويغني بتفاني للقضية النوبية. ففى كل أغانى منيب تجدى حنانه وإشتياقه للنوبة فروح النوبة كانت دائمة ابداخله ورغم تواجده مع الآف البشر إلا أنه كان يشعر بالغربة لبعده عن النوبة.
ما يطلبه المستمعون
أجد طلبات كثيرة من الجمهور. كل شخص يريد أن يسمع شئ معين ونادراً ما تجدى توافق على أغنية معينة. ولعل أغنية «دار بي الهواء» هى التي تحظي بإقبالاً كبيراً فهى أغنية جديدة على الجمهور ولم يسمعونها من قبل وحين قدمتها لأول مرة قدمتها بصوتى لإيصال الحالة للباند والجمهور معاً وهى حالة منيب التى غناها بها. بعدها، يمكننا إحداث تغيير بها من زيادة الآلات أو تغيرها. أعطى للفرقة الحرية الكاملة فى اللعب بالأغانى بما لا يضر بها ويُفقدها روح منيب. ولما إدي الباند تلك الأغنية فى نحو أربع حفلات، أصبح الجمهور هو من يطلبها بل وأحياناً، تكون هي الأغنية الإفتتاحية للحفل. وللعلم، هناك العديد من الأغانى التى لم يسمعها الجمهور من قبل فتراث منيب لم يظهر بعد.
منيب.. حلم لم يتحقق
كلما أطال الله عمري، أجد ما كان يحلم به منيب يتحقق يوماً بعد يوم، عندما أري شابة صغيرة تستمع وتحفظ أغانى منيب فهذا أعلى طموح يمكن لأى فنان أن يحلم بتحقيقه. كان هذا هو حلم منيب. كنا نسكن بحى السيدة زينب الشعبي وكنت أجده يفتح الشباك عند التلحين أو تأليف كلمات جديدة فأقول له «يا حاج أنا أعلم أن الفنانين عندما تلحن تقوم بتهئية الجو العام لتركز وتعمل فى صمت وأن فلان الفلاني يذهب لفندق ما حتي يؤلف فلماذا تعمل وسط هذا الضجيج والضوضاء؟ فكيف تركز وصوت الشارع والناس عالى جداً،؟ فقال لى «أنا بحس إن الناس بتغنى معايا فهؤلاء الناس يساعدوننى فى كتابة الكلمات أو التلحين. الضوضاء فى الشارع تأتى لى كنغم، فكان يشعر أن هؤلاء هم من سيسمعوه ويتغنون بأغانيه. وهذا هو النجاح الذى يقاس على أساسة أى فنان بأن تصل أغانيه لكل مكان ويغنيها الجميع كبير وصغير، غنى وفقير، والأهم أن يصل للطبقات البسيطة. ما كان يحلم به منيب، أعمل أجاهداً علي تحقيقه.
عن تقدير الدولة
للأسف هناك عدم تقدير من جانب الدولة لموسيقى منيب فما يميز موسيقى منيب ليس تلك الإيقاعات النوبية فحسب بل لقد أضاف أشياء كثيرة بعالم الموسيقى الشرقية جعلتنا نقول أن هناك عبقرية بموسيقي منيب فهو أحدث تغييراً بالشكل الموسيقى فى مصر.
أحمد منيب فى سطور
كان أول من عزف على العود في النوبة وقدم مع الشاعر محيى الدين شريف أول أغنية نوبية تتكون من قالب الأغنية الحديثة مذهب وكوبليهات حيث كانت الموسيقي النوبية قبل هذا التعاون هي مجرد أغان تتوارثها الأجيال بتنويعات لحنية ثابتة في الأفراح وحفلات الميلاد وأغنيات العمل. وإبان ثورة يوليو وإنشاء الإذاعة المصرية، وجه أحمد منيب وزميله الشاعر رسالة شخصية للرئيس جمال عبد الناصر طالبين فيها السماح للموسيقى النوبية بمساحة في الإذاعة المصرية كتأكيد على مصرية نوبيته. وما كان من الرئيس إلا أن إستجاب لندائهما وجاء برنامج «من وحي الجنوب» ليسمع المصريين اللغة النوبية بلسان حال عبد الفتاح والي وألحان أحمد منيب. نجح منيب في إنطلاق الإذاعة باللغة النوبية كأولى خطوات إنتشار اللغة والموسيقى النوبية لكن مع الأسف كان حصار الذوق السمعي عبر غناء الأساطير من أمثال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم وتلاهما عبد الحليم حافظ وفريد الأطرض وغيرهما من أقطاب الغناء آنذاك سبباً مباشراً في تأجيل مشروعه الكبير، الذي ظل حبيس حفلات الأفراح النوبية في القاهرة والأسكندرية مما إضطر منيب للإنتظار حتى نهاية السبعينيات ليقدم مشروعه إذ غيب الموت العندليب وأم كلثوم وتراجع الموسيقار محمد عبد الوهاب عن التلحين منذ منتصف السبعينيات ليظهر أحمد عدوية بموسيقى الحارة الشعبية المصرية خارج الأطار الرسمي قبيل عصر الإنفتاح الإقتصادي. إلتقى أحمد منيب والشاعر عبد الرحيم منصور ذو التجارب الناجحة مع عفاف راضي إبنة السبعينيات ليتلاحم اللحن الحزين والكلمة الثرية المهمومة القادمة من عمق الصعيد المجهول لأهل القاهرة. فكان محمد منير عام 1978والموزعان هاني شنودة ويحيي خليل قادة هذه المرحلة لتبدأ من وقتها مسيرة النجم محمد منير ومن حوله جيل الثمانينيات. وللحق، إستطاع ثلاثي التجربة وهم أحمد منيب وعبد الرحيم منصور ومحمد منير إقحام الثقافة النوبية -لأول مرة- لكل بيت وأسرة مصرية حيث إنتزع إعترافاً متأخراً بثقافة عانت قروناً من التغييب والتعالي الرسمي. وكان ألبوم محمد منير الشتوي، عاماً بعد عام ومنذ بداية الثمانينينات هو موعد أبناء جيل واحد للتغني بأحزان وغربة المدينة، جيل لم يعش يوماً في النوبة. جيل ربما لم يعرف الغربة لكنه بألحان منيب إحتشد بغرفه الساكنة عازلاً أنفاسه عن ترنح الآباء بصالات المنزل أمام سلطة أم كلثوم وزمنها الذهبي، جيل حملته ألحان منيب لحنين للماضى والوطن والذكريات. وفي عام 1991 توفى أحمد منيب عن عمر يناهز خمسة وستين عاماً بعد رحلة حافلة بالعطاء والتجديد الموسيقى الذي كان ذا سحر خاص ومذاق مميز لا ينسى فقد أحدثت كلمات أغنياته التي تفيض بالحكمة والموعظة أثراً رائعاً فأصبح هو والشاعر طاهر أبو فاشا والممثلة شريهان في «ألف ليلة وليلة» يشكلون أعظم ثمرة ونتاج لهذه الحقبة التاريخية العارمة.