بين الإحتواء والتضحية والعطف والسكن والقوة والسند يختلف مفهوم الأمومة ولاسيما الفنانين ممن لديهم رؤية مختلفة للحياة والعلاقات وهو ما يتضح بالأعمال الفنية التى تختصر فى لوحة واحدة كثير من المعانى، ولا تختلف الأم فى اللوحات بسبب تغير الشخصيات فحسب ولكن أيضاً بإختلاف العصر وتغير صورة المرأة والأم فقديماً كانت العذراء هى الصورة المسيطرة للأمومة وهو ما يتضح بمنحوتات مايكل أنجلو ولوحات دافنشى التى سجلت الأمومة بمراحلها المختلفة لتعكس مشاعر الحنان والرعاية والحزن على الإبن وهوما يظهر بلوحاتهم خاصة مايكل أنجلو الذى تظهر الأم فى غالبية لوحاته تحتضن إبنها وتميل رأسها عليه وكأنها تحتويه وتستقوى به فى الوقت نفسه.
تعتبر لوحة مادونينا أحد أشهر اللوحات في العالم ومن أكثرها إستنساخاً. كان روبيرتو فيروتزي يريد رسم صورة ترمز للأمومة ولذا أسماها مادونينا وتعني بالإيطالية الأمّ الصغيرة، ولم يكن بذهنه رسم صورة دينية لكن بمرور السنوات أصبح الناس ينظرون إليها كصورة أيقونية للعذراء وطفلها الرضيع وكان هذا الخلط سبباً في الشهرة والشعبية التي إكتسبتها الموديل في اللوحة وإسمها أنجيلينا. كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها والطفل الذي تحمله هو شقيقها الأصغر ذو الأشهر العشر وكان الرسّام قد رأى الفتاة والطفل في فينيسيا ذات شتاء وكانت ترتدي ملابس ثقيلة وتحمل شقيقها إلى صدرها لحمايته من البرد. وبرغم صغر سنها، إلا أنها كانت تُظهر إحساساً عميقاً بالأمومة وهي تحتضن الطفل. كان فيروتزي آنذاك في الأربعينات من عمره وقد رأى انجيلينا فذهل لجمالها وبراءة ملامحها وقرّر أن يرسمها هي وشقيقها. وعندما عُرضت اللوحة في بينالي فينيسيا سرعان ما إكتسبت ثناء النقّاد وإستحسان الجمهور ونال الرسّام جائزة وتدريجياً أصبحت اللوحة تُعامَل بشيء من القداسة واستنسخت آلاف المرّات لمناسبات أعياد الميلاد والزواج وغيرها من المناسبات الدينية والإجتماعية. وبمرور الزمن، ظهرت منها نسخ معدّلة مضاف إليها غيوم وهالات مقدّسة لتدعم التفسير الديني لها. كان فيروتزي يريد تجسيد لحظة حنان وعطف بين أخت وشقيقها، فرسم صورة خالدة تتحدّث للناس بعفويّتها وصدقها وتظهر الفتاة وهي تحمل شقيقها النائم على كتفها بسلام وتقف على أعتاب أحد البيوت وكأنها تتوسّل من أهله المأوى أو الطعام. وأهمّ ما يلفت الانتباه في الصورة هو وجه الفتاة ذو الملامح الجميلة وعباءتها الخضراء وغطاء رأسها الذهبي والملامح الملائكية للطفل النائم.
وبعد سنوات من رسم اللوحة، تزوّجت انجيلينا وهي في التاسعة عشر وغادرت مع زوجها للولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى حيث استقرّا في كاليفورنيا وعاشا حياة مريحة وأنجبا عشرة أطفال. وفي عام 1929، توفّي الزوج فجأة عن اثنين وأربعين عاماً بعد إصابته بمرض مفاجئ وكافحت أنجيلينا كثيراً لرعاية أسرتها الكبيرة. لكن بفعل التعب والإجهاد، أصيبت بإنهيار عصبيّ وقضت بقيّة حياتها بمصحّة نفسية فيما أودع أبناؤها الأصغر سنّاً بملجأ للأيتام لكنهم ظلوا أوفياء لأمّهم حتى وفاتها عام 1972. إحدى بنات أنجيلينا وتدعي ميري وأصبحت راهبة كانت تلحّ عليها أسئلة بشأن ماضي عائلتها وظروف موت والدها وجنون أمّها كما كانت تتساءل عن أقارب والديها بإيطاليا ومن ثم ذهبت ميري بالفعل لإيطاليا عام 1970وعرفت مكان إثنتين من شقيقات والدتها أي خالاتها وكانتا في الثمانينات من عمرهما وقد فقدتا الأمل في معرفة ما حدث لشقيقتهما بعد هجرتها لأمريكا. إحدى الأختين أظهرت لميري صورة لأمّها عندما كانت صبيّة وأخبرتها أن والدتها كانت موديل لوحة رُسمت في نهاية القرن قبل الماضي وكانت ميري قد رأت نسخاً من اللوحة، لكن لم يخطر ببالها أن المرأة التي تظهر فيها هي أمّها. عائلة ميري في الولايات المتحدة أدهشها الإكتشاف وقرّرت التأكّد من القصّة. وبعد البحث عرفوا مكان إبن شقيق الرسّام وكان ما زال حيّاً وإعتماداً على مذكّرات الرسّام الشخصية، ظهر دليل دامغ على أن والدة ميري كانت هي المرأة التي تظهر في اللوحة كما تمّ التعرّف على الطفل الذي معها وهو شقيقها الرضيع جيوفاني وكان عمره آنذاك عاماً واحداً. أثناء حياتها،
لم تخبر أنجيلينا أطفالها بأمر اللوحة وفضّلت أن تُبقي الأمر سراً لأسباب غير معروفة غير أن عائلتها لا تبدو الآن سعيدة بعنوان اللوحة «مادونا الشوارع»، إذ يشير بشكل غير مباشر للدعارة وترى العائلة أن العنوان الأصلي «الأمّ الصغيرة» أفضل وما يزال أحفاد أنجيلينا يبحثون عن اللوحة الأصلية دون نتيجة ويؤكّدون أنهم لا يطالبون بملكيّتها وإنما يريدون رؤيتها ولمس ألوانها وتفاصيلها إذ أن الرسّام كان يعرف جدّتهم وجدّهم عن قرب ويقال إن اللوحة الأصلية اختفت من إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية وقد تكون ضاعت أثناء رحلة بحرية بالمحيط الأطلنطي لكن هناك رأياً آخر يقول أن اللوحة قد تكون أخذت طريقها لإحدى المجموعات الفنّية بأمريكا. كان روبيرتو فيروتزي معروفا في إيطاليا خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي وقد ولد بمدينة فينيسيا عام 1853 لأب يعمل محامياً وقد درس الرسم في سنّ مبكرة. وفي مرحلة تالية، إنتظم كطالب بجامعة بادوا. أما لوحته «مادونينا» فهي الأشهر علي الإطلاق ضمن جملة أعماله فالنية فله أعمالاً أخرى أقلّ شهرة تتوزّع على متحفي فينيسيا وتورين وقد توفّي الرسّام بمدينة فينيسيا في فبراير عام 1934.
الأم بريشة أولادها
تغني مشاهير الفن بحب الأم وأضافوا عواطفهم المفعمة بالحساسية والإثارة في لوحات تعكس الجانب العاطفي وتعبر عن عظمة الإحساس الذى نتج عنه ثلاث وثلاثون لوحة رسمها مشاهير العالم أغلبها يحتل جدران المتاحف العالمية. رسم الفنان الألمانى ألبرت بروير أمه باربرا عام 1490 بريشة عصر النهضة الأوروبية ذو القواعد الأكاديمية الصارمة ودقة التشريح والمحاكاة المباشرة فيما رسم الفنان الإيطالي جوديو رينيه أمه بريشة الباروك عام 1612 معتمداً على نقل الواقع بأسلوب درامي يطابق الحالة التراجيدية الذى يلمسها المشاهد في الشخصيات المرسومة وعبر الفنان الهولندى رامبرانت عن أمه عام 1630 بأسلوبه التعبيرى المنفرد المعتمد على إنعكاس الضوء والظل بقوة في شخصياته التى تبدو قريبة من الواقع الملموس مستخدماً لإبرازها عدد محدود من الألوان كما رسم الفنان البريطانى سير توماس لورنس أمه لوسى عام 1797 وكذلك الألمانى ألفريد راسل عام 1836 والفرنسي كإميل كاروت عام 1838 والأمريكية مارى كاسيت أحد رواد النزعة الإنطباعية ورسمت أمها عام 1878.. ولا يفوتنا لوحة الفنان فان جوخ عام 1888 الذى رسم أمه باللونين متضاربين بين الأخضر والأسود بأسلوبه البسيط البليغ فى التعبير ونجد نظرة الأم تشبه لحد كبير رسم فان جوخ لنفسه وكأنه يطابق أمه بذاته كما نعلم أن الفنان الفرنسي بول جوجان كان ميالاً للعاطفية لدرجة الإسراف ويعد رائداً للنزعة الرمزية التى تهتم بالبحث فيما تحت المظهر عن رمز تشكيلى يكون أكثر دلالة على الحقيقة من أى نسخ واقعى وبهذا المنطلق نجد لوحته المعبرة برسم أمه ألين عام 1890مرسومة بإحساس مرهف وغيرهم من الفنانين ممن رسموا لوحات لأمهم كتعبير عن حبهم ونوع من رد الجميل.