الزمان.. الثانية صباحاً.
التاريخ.. فجر الثلاثاء 23 يونيو 2010
المكان.. كوبرى التونسى الذى يصل ما بين المعادى وحلوان بوسط البلد وطريق الأوتوستراد بالقاهرة.
الحدث.. سيارة مسرعة تقل أسرة مكونة من ثلاثة أفراد تصطدم بسور كوبرى التونسى وتسقط عند حى الخليفة بمنطقة البساتين.
والنتيجة.. حريق تطلب نحو 60 سيارة إطفاء لإخماده و15 سيارة إسعاف مسفراً عن تفحم ركاب السيارة وإصابة 50 آخرين وأضرار بالغة بسور التونسى وتحول سوق الجمعة لكومة رماد وخسائر مالية بلغت الـخمسين مليون جنيه.
ثم.. معالجة أضرار الكوبرى وترميمه والاطمئنان على خطوط السكة الحديد المجاورة للسوق وإغلاق ملف الحريق ونسيان أكثر من 5 آلاف عامل وحرفى وساكن بالمنطقة دون أى اعتراف من جانب المسئولين بأحقية تجار وسكان المنطقة فى أى تعويض..
سوق الذكريات والأيام ولحظات القوة والضعف، هو سوق لا تقيم بضاعتها بجودتها أو كمالها وإنما بقدر ما تحمله من ذكريات، بهذه السوق المطلة على عوالم عدة والممتدة من وسط القبور بالبساتين لميدان السيدة عائشة وحتى جبل المقطم، ستجد باعة للتحف والأنتيكات وللطيور والحيوانات وباعة الموبايلات والسيراميك والأدوات الصحية المستعملة وباعة الأخشاب والملابس وسوقاً للساعات والنظارات والكلاب والحديد الخردة وهو الأمر الذي دفع بالفنانة مى الحسامى للذهاب إليها قبل عامين للتعرف عليها بعدستها من فرط ما سمعت عنها، لتجد نفسها أمام السوق التى وقعت فى غرامها كومة من الرماد ولتعكس عدستها المكان بعد الحريق وما أصابه، مجموعة صور هي في الأساس مضمون معرضها التصويري بعنوان «كان يا مكان» والمقام بدرب «1718» ويتناول سوق الجمعة قبل وبعد الحريق.
تروى الحسامي تجربتها مع سوق الجمعة بكثير من التأثر، فتقول «كنت دوماً أسمع عن سوق الجمعة وفى كل مرة أسأل عن شئ يعجبنى من قطعة خشب أو تحفة، يخبروننى أنها من سوق الجمعة، ومن ثم قررت زيارة السوق وفوجئت بالجو العام المحيط، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التى أقترب فيها من نوعية مختلفة من الأناس الذين ربما لا يفصلنا سوى بضعة سنتيمترات ولا ندري عنهم شيئاً، كان دوماً ينتابني شعور دفين -عند زيارة السوق- بوجود شئ ما يربطنى بالمكان، وكأنه قدرى ووجدت نفسى أجمع صوراً للمكان وأتعلم الكثير من زيارتى للسوق.
فى البداية، كان الناس خائفين وقلقين منى، عندها أيقنت ضرورة ابتكار وسيلة أخرى غير التقاط الصور والانصراف، فبدأت أتجاذب الحديث مع الحاضرين وأحاول كسب ودهم وثقتهم لأتمكن من تصويرهم، ووجدت منهم من لا يرغب فى التصوير ومنهم من يفعل شيئاً خطأ فلا يريدنى أن أصوره، فالصورة وقتها إما أن ألتقطها بسرعة أو لا ألتقطها أبداً فلا وقت للتفكير مثل صورة «الثلاث ورقات»، فهناك من يلعبها وهى ممنوعة أصلاً، ولعل أكثر ما أعجبنى بالسوق فكرتها القائمة على «إعادة التصنيع» خاصة أننا نعيش فى مجتمع استهلاكى، وهناك مواطنون فقراء لا يستطيعون الشراء بأسعار مرتفعة فيذهبون لسوق الجمعة لشراء المستعمل. وبعد الحريق، لم تستطع الحسامي ارتياد السوق لأكثر من عشرة أيام من جراء الصدمة والحزن، كانت تشعر وكأن عزيزاً قد رحل، حتى جاء اليوم الذى قررت فيه الذهاب للسوق لترصد بعدستها ما حدث، المكان الذى كان يعج بالحياة والضجيج أصبح كومة رماد فوق رءوس أهله ممن يلملمون بقايا رزقهم، المكان الذى لم يكن به سلفاً تواجداً أمنىاً يذكر تنتشر بكل شبر منه قوات وعربات الأمن المركزى، وضباط وحواجز، وتقول «لم أتصور أن كل ما سجلته أصبح مجرد تاريخ ولم يعد موجوداً فى الحقيقة، لذا قررت الذهاب مرة أخرى لتسجيل ما أحدثته النيران بالمكان الذى سبق وسجلت جزءاً من حياته، والآن أسجل وفاته، من العجيب أنه قبل الحادثة كان الناس لا يريدون الظهور في التصوير، وعلى العكس بعد الحادثة، فكانوا يريدون أن يعبروا عن مصيبتهم وأوجاعهم، فلم تعد الصور الصامتة كافية، فكان الفيلم الوثائقي هو الشاهد على هذا الحدث الذى غير مصير كثيراً من الناس.. ورغم منع الأمن دخول الصحفيين والمصورين فقد استطعت جمع شهادات حية للناس، فكاميرتى تصور فيديو وتلتقط صور فى نفس الوقت، الأمر الذى لم يلحظه الأمن هناك وكنت أبررما أفعل للضباط بأننى أعد مشروع تخرج عن سوق الجمعة.. لقد تعرض السوق للنهب والسرقة بعد الحريق، وخسر أولئك الناس مساكنهم وتجارتهم ولم يسأل فيهم أى أحد، وتريد الحكومة إلقائهم خارج القاهرة بـ15 مايو لتتخلص من متاعبهم ولتبعدهم عن نظرها.
الحسامي حين أقامت معرضها لم تكتف بمجرد محاولة عرض مجموعة من الصور للسوق قبل وبعد الحريق، وإنما نقلت المكان نفسه، فهناك وعند مجموعة لوحات مابعد الحريق مساحة مفروشة ببقايا الزجاج والسيراميك المردوم به السوق ولتتمكن من تفحص الصور، عليك أن تخطو فوقه لتصبح رسالة بالعين والألم. وفوق حائط آخر جمعت صورتين بإطار لضابطين وصورة لفتاة صغيرة تحتهما بوفيه عتيق فوقه مجموعة كتب قديمة لأجاثا كريستى وعود مكسور يرتكن فوق مجموعة من شرائط موسيقية موغلة فى القدم وبقايا عربة قطار أطفال فى صورة تحكى سنيين من الذكريات لأناس لم يلتقوا قبلاً وجمعهم مكان مشترك وحائط واحد وسوق أعُلنت علي الملأ وفاتها.
متابعة- سارة الشريف