سؤال بلا إجابة.. سأله الكثيرون فى شتى أنواع الفنون ولا تزال الإجابة حائرة والسؤال بلا تفسير واضح.. هل الفن -أياً كانت صورته- صورة منقولة مجردة أم أنه يحمل روح صاحبه ومكنون ذاته..
ولعل الفن التشكيلى من أكثر الفنون التى تعرضت لتلك التساؤلات.. احتار المتلقى والدارس بمدارس الفن المختلفة،، وظل السؤال بلا تفسير واضح وربما تأتى الإجابة بجولة عبر المدارس الفنية المختلفة..
أصل الحكاية..
استمر الفن التشكيلي عبر عصور الفن المختلفة كلغة بصرية تعتمد في الأساس علي «الطبيعة الخارجية» كمصدر ومرجع للأفكار الفنية التشكيلية، وتقليد ثابت وموروث تقاس جودة الأعمال الفنية بالاقتراب منه وتوصف بالضحالة كلما ابتعدت عنه، حتي إنه وصل لتقليد ونقل غاية في الدقة والإتقان لتفاصيل الموجودات كما يظر بوضوح في أعمال فناني ما قبل القرن العشرين من إبراز لأدق صغائر الأشياء الحياتية مثل نسيج الأقمشة وتفاصيل الأرض والسقف وتجاعيد الوجه وخصلات الشعر وغيرها، ويظهر ذلك في أعمال فنانين مثل «هانزهولبين» 1543-1497، و«فرانز هالز» 1666-1580، وبعدها بقليل مع «فان جوخ» 1890-1853 صاحب المدرسة «التأثيرية» التي لم تخرج من إطار الفن كتقليد يستلهم لوحاته من نماذج منقولة من الطبيعة: كلوحة «غرفة نومه» و«عباد الشمس» و«الحقول المختلفة» و«صوره الشخصية» وغيرها.
كانت الطبيعة هي الوحى الأول لأفكار اللوحات التشكيلية في تلك الفترة وبخاصة قبل اختراع الكاميرات الفوتوغرافية.. هكذا كان فنان تلك العصور يعتقد بأن الحقيقة الفنية موجودة «خارج» كيانه الإنساني، فهو يبحث عنها ويكتشفها ويسجلها كحقيقة بصرية لا تخطئها عين المتلقي والمشاهد.
النهضة والظل والنور..
وصلت تلك الحقيقة البصرية إلى ذروتها مع عصر النهضة الإيطالية، فتكشفت قواعد المنظور والظل والنور وبدأت اللوحات الثلاثية الأبعاد تظهر، ومن شهود هذا العصر كل من «مايكل أنجلو 1564-1475، وليونارد دافنشي 1519-1452 ورمبرانت 1669-1606.
برغم ذلك، لا يمكن للمتأمل الادعاء بأن تلك الأعمال خالية من الإبداع لمجرد كونها أعمالاً تسجيلية لحقائق بصرية، وإنما بوسعنا أن نقول أنها كانت أعمال فنية طغت عليها الحرفة والتقنية، فأبعدت الفنان عن حريته التشكيلية وسجنته في قالب من القواعد والأصول الثابتة والألوان المحددة والمتوارثة من السابقين بتعليمات لا يسمح فيها بمساحة كبيرة من الإبداع، وإنما كان الأفضل الالتزام بالمنهج الأكاديمي لإبراز الحقيقة البصرية الواقعية للحياة كما لو كانت صورة فوتوغرافية.
خلاصة القول أن الفن كتقليد كان يعني محاولة محاكاة المرئيات في العالم الخارجي والنقل الأمين لتفاصيلها، ولكن عند الوصول إلي مشارف القرن العشرين بدا للفنانين
حقيقة جديدة وهي أن ريشة الفنان حينما تسجل الأشياء بالعين دون الوجدان فإنها حتماً تنتهي إلي مجرد عملية تسجيل تتفوق عليها الكاميرا وآلة السينما بلا منافس، وحيث إن الفنان هو في الأصل إنسان لديه مشاعر ووجدان وردود أفعال ومواقف متباينة فقد أصبح يعتمد علي ذاتيته واعتبرها أساساً جديداً ومنهلاً صادقاً في التعبير والإبداع الفني في الفن التشكيلي، وبعد أن كانت اللوحة هي «لقطة واقعية» أصبحت «فكرة انطباعية»، وبعد أن كانت «رؤية بصرية» أصبحت «رؤية وجدانية»، ويستدل علي ذلك بتجربة قام بها الباحثون علي رسوم الأطفال، فقد وضعوا طفلاً أمام أطفال آخرين في سن الثانية عشرة ليرسمونه فلم يهتموا إلا بالانطباع الأول دون تدقيق ولوحظ أن عدداً كبيراً منهم أخذوا يرسمون من عقولهم وعند تحليل ما رسموه وجد أن عدداً منهم رسموا زميلهم واقفاً مع أنه كان جالساً ورسموه أيضاً بوجه جانبي إلي اليسار وآخرين رسموه بوجه جانبي إلي اليمين، والرسوم في مجملها غلب عليها الطابع الرمزي أكثر من الواقعي.
وبدا أن ما رسمه كل طفل هو في الحقيقة المضمون الفكري والوجداني كما يظهر في مخيلة كل منهم، وهو ما يطلق عليه «منطق الإدراك الكلي»، وهذا المبدأ مطبق بوضوح في الفن المصري القديم و«الفن الفارسي» والفن المكسيكي القديم، وقد بدأ الفن الحديث في القرن العشرين باعتناقه كمدخل لكشف الحقيقة الفنية من منظور جديد، ودعنا نتصور مغذي الحقيقة الفنية المبنية علي الإدراك الحسي البصري، وتلك المبنية علي الإدراك الكلي.. «لو رسمنا مثلاً » المنضدة، فإذا رسمناها وفقاً للإدراك البصري فسيظهر سطحها العلوي ووجهيها الأمامي والجانبي، أي ما نراه حين نطبق قاعدة المنظور، أما الطفل حين يرسمها بإدراكه الذي سوف يجمع بين السطح والجوانب والأرجل الأربعة في صورة واحدة، وبحسب منطقه أنه يرسم المنضدة بشكل أكثر شمولاً كما يراها حين يتحرك حولها، لأن الحقيقة لديه قد برزت متعددة الجوانب وكل تلك النظريات صحيحة.
الفن توأم الروح..
تحرر الفنان «بيكاسو» من الإدراك الحسي البصري في رسمه للوجه من زاوية واحدة، فرأيناه يرسم الوجه من أكثر من زاوية.. الأمام والجانب وربما الخلف في آن واحد، وكانت تلك المحاولات غريبة حين بدأها خاصة لأولئك الذين تعودوا علي الإدراك الحسي البصري،
من هنا بدأ التمهيد للتحول إلي المدرسة الرمزية في الفن التشكيلي وبروز التضارب بين «الحقيقة البصرية» و«الحقيقة الفكرية» فالأولي ترتبط بميكانيزم الإدراك البصري، «ما تراه عيني» والثانية تتعلق بالأفكار «ما يراه وجدانى».. والفارق بينهما كبير، فالأولي مقيدة والثانية محررة.. الأولي منقولة، والثانية مؤلفة.. الأولي ملتزمة بالأصل، والثانية تحمل كل طاقات الإبداع..
والحقيقة أن القرن العشرين اتجه إلي الحقيقة الفكرية أكثر من الحقيقة البصرية التي قتلت بحثاً خلال العصور السابقة، أي إلي المفهوم أكثر من الملموس، وبرزت المدارس التي تدعو للرمزية والتجريبية والتجريدية والخداع البصري والتكعيبية وغيرها من المدارس الفنية التي قامت علي أبجدية حديثة للمفاهيم والأفكار والمشاعر بعيداً عن الأبجدية القديمة للمرئيات والمدركات الحسية الملموسة.
الفن: ذاتية أم موضوعية !
هل يجب علي الفنان أن يكون موضوعياً في ترجمة الواقع أم يكون ذاتياً في التعبير عن وجدانه وأفكاره؟
وللحق، الإجابة معقدة.. فالحقيقة الفنية «ذاتية موضوعية»، في آن واحد، لأن الفن لو اقتصر علي «الذات» دون «الموضوع» قد لا يستطيع المتلقي أن يدرك الرسالة الموجهة من المبدع وقد يسبب ذلك نوعاً من الثرثرة والغموض داخل عقل المتلقي، حيث إن رسالة الفنان لابد أن تنتقل في قوالب يعرفها الناس وتمثل بين الجميع أرضية مشتركة، وأيضاً ليس بالضرورة استخدام النظرة «الموضوعية» دون «الذاتية» في العمل الفني لأن ذلك يعني النقل الحرفي الخالي من الإبداع، وإنما الحل يكمن في انصهار «الموضوعية» من ناحية و«ذاتية» الفنان من ناحية أخري، وبهذه المعادلة المتوازنة فقط تقوم العلاقة الصحيحة بين المبدع والمتلقي، وكلما أحكم الفنان هذه المعادلة، كلما أدي ذلك لراحة المتلقي والتأثير فيه، فالأعمال الفنية تنجح بقدر ما تستثير مشاعر الجمهور، وهذا لا يتم إلا بالجمع بين الحقيقة الموضوعية من أشكال ومرئيات وبين الحقيقة الذاتية من معاني دفينة في عقل ووجدان الفنان، أي بين الواقع الملموس وبين الإيحاء.
فلو تخيلنا مثلاً أن فناناً يرسم الشمس كمجرد «دائرة» دون التعبير عن وجدانه ومشاعره الذاتية تجاه تلك الشمس، فسوف تصبح الشمس مجرد دائرة غير محددة الخصائص، وليس لها دور وقد يتوه المتلقي بين التفسيرات المجردة للدائرة، أهي قمر أم كرة أم بالونة أم برتقالة؟!، وإذا لم يضع الفنان بصمته ومشاعره ورؤيته علي هذه الدائرة، فهو لا يحقق فناً وإنما ينتج أشكالاً مجردة بلا معني ولا هدف.. ويجدر هنا السؤال عن تلك المشاعر التي ينقلها الفنان التشكيلي ويريد التعبير عنها..
هى لسيت بالتأكيد كتلك المشاعر التي ينقلها الشاعر أو الموسيقي أو الراقص لأن مشاعر الفنان التشكيلي تتعلق بمعاني الأشكال التي يرسمها ويحاورها وينظم بها تكوين عمله الفني فوق سطح اللوحة، ولهذه المشاعر «أدوات» تحركها و«قواعد» تنظمها و«لغة» تنطق بها، و«معني» يدل عليها، ولو وصفنا طبيعة كل شكل ومعناه بشكل مستقل خارج نطاق اللوحة لكان ذلك وصفاً جزئياً ومسطحاً لأن الشكل يأخذ معناه وذاتيته وتأثيره من خلال السيناريو أو الإطار الخاص به داخل العمل، فمثلاً إذا تناولنا شكل المقعد أو القمر أوالرجل أوالنافذة، لن يوحي لنا ذلك بشيء يذكر لأنها خالية من المشاعر، لكن عندما تترابط تلك الأشكال داخل مسطح اللوحة بإيقاع وألوان وتأثيرات، تبدو قيمتها ويسهل للمتلقي التعرف علي أيديولوجية العمل الفني، وفلسفة الفنان ورؤيته الخاصة، وبهذا نري المشهد متكاملاً، وقد نشعر حينئذ أن الرجل الجالس فوق المقعد أمام النافذة المطلة علي القمر حزيناً أو متأملاً أو مفكراً أو ساكناً.. إلخ.. حسب الرسالة والمضمون الذي يقصده الفنان ويلخصه في لحظة واحدة مكثفة جامعاً بين الموضوعية والذاتية، وقد يفسر ذلك ما سبق وأشرنا إليه في تعريف الحقيقة الفنية بأنها ذاتية وموضوعية في آن واحد.
النفور من صنع الفنان..
قد يكون الجهل بنظرية الموضوعية والذاتية في الفن التشكيلي هو المسئول عن وقوع المتلقي والدارس للفن في فخ «الاستغراب» أو «النفور» أو الإحساس بصعوبة قراءة الأعمال الفنية، وما يقع فيه طلبة الفنون من تضليل هو في «الخديعة» التي يقعون فيها حينما يفسرون العمل المعروض أمامهم من زاوية «الموضوعية» الناقلة للواقع الحرفي دون أن يجتهدوا بوعي للبحث عن انفعالات الفنان «الذاتية»، فبصرف النظر عن محتويات العمل سواء كان جسماً بشرياً أو حيواناً أو وآنية زهور، فانفعالات الفنان هي التي تشكل العلاقة والرسالة والانطباع وتمثل رؤيته الذاتية والفريدة التي قد تختلف عن رؤية فنان آخر لنفس ذات العناصر المستخدمة في اللوحة، فلكل فنان رؤية جمالية ذاتية، ولكل فنان مدخل جديد للتعبير عن واقعه الخارجي.
وإجمالاً، وصل الفن التشكيلي خلال القرن العشرين لأعلى مستويات النضج إذ أصبح أكثر وعياً وإدراكاً للحقيقة الفنية وطبيعتها علي أساس أنها ليست تقليداً للعالم الخارجي بقدر ما هي أفكار وانطباعات وإبداعات ذاتية،
لكن يظل عالمنا العربي علي شواطئ ساخنة وقضايا شائكة لمفاهيم مختلطة حول التذوق الفني، والتربية الفنية، وقضايا الحلال والحرام في الفن، واستخدام الفن التشكيلي كعنصر أساسي في الديكور، وانصراف المجتمع العربي عن معارض الفن التشكيلي، وسيطرة ثقافة القبح وغيرها من المفاهيم والقضايا الخاطئة التى تعجز عن استيعاب رسالة الفن الحقيقية.