ما المقصود بالعدوانية؟ هل هى إحدى الغرائز الطبيعية التي يولد بها الطفل؟ أم نتاج إحباطات عدة يواجهها عبر مراحل عمره المختلفة أو سلوك مكتسب من البيئة المحيطة معزز من قبل النماذج التى تبثها وسائل الإعلام والظروف البيئية الصعبة التى تحيط بنا من زحام وتلوث وغيرها.. والنتيجة سلوك شاذ وعدوانية غير مبررة وأطفال غير أسوياء ومعاناة أهالي لا تنتهي.. مشكلة مشتركة وتساؤلات عدة يجيب عنها الطب النفسي..
العدوانية -في الأساس- هي سلوك موجه للآخرين بهدف إضرارهم وإلحاق الأذى بهم مادياً ومعنوياً بصورة ظاهرة أو مستترة، والسؤال هنا هل تلك النزعة العدوانية تتسم بالضرورة بالسلبية والسلوك الهدام وتتجلى دوماً في سلوكيات مؤذية للطفل والمحيطين أم أنه قد يكون لها جانب إيجابي يمكن إدراكه وتوجيهه لمسارات صحيحة ومن ثم تمسي العدوانية سلوكاً سلبياً يسمح له بالتعبير عن ذاته في محاولة جادة لبناء الشخصية السوية والحفاظ علي تقدم الفرد ونمو كيانه المستقل، في هذا الصدد أكد عالم النفس الشهير سيجموند فرويد على أن غريزتى الحب والعدوان أساسيتين لبقاء الحياة واستمرارها، أى أن العدوان طبيعة فطرىة داخل الإنسان وطاقة لازمة له لمواجهة الحياة واقتحام مجالاتها وحماية نفسه من مخاطرها كما أشار إلى أن التعبير عن تلك الطاقة -أياً كانت صوره- ضرورة حتمية للحفاظ على التوازن النفسي بدلاً من ارتدادها للداخل وإيذاء النفس.
سلوك طبيعي فطري
في الأصل، اشتقت «Aggresivess» بالإنجليزية من اللاتينية «AD-Credi» وتعنى حرفياً «الانطلاقة نحو» أى أن النزعة العدوانية هى غريزة المواجهة والاستكشاف وتأكيد الذات، فيما يصفها المحلل النفسي الشهير «أنطونى ستدر» بأنها محرك لكل حركة ومرادف لكل نشاط يقوم به الإنسان.
وعند متابعة هذا الدافع الفطرى العدوانى منذ ولادة الطفل، نجده يختلف من مرحلة لأخرى ويعبر عن نفسه بعدة أشكال تختلف باختلاف المراحل العمرية للطفل ونمو شخصيته بيد أنها ينبغي لها أن تظل في الحدود الطبيعية المقبولة التي لا تستدعي التدخل الطبي أو تستدعي انتباه الآخرين كسلوك شاذ ينبغي العمل على مجابهته وعلاجه، كما أن ظاهرة السلوك العدواني ينبغي لها أن تظل أيضاً ملازمة بشكل موازي للنمو النفسى السوى للإنسان، فالطفل في شهوره الأولى يبدأ في المعاناة من عدة متاعب كظهور الأسنان عندما يعض أى شىء نضعه بفمه وكثيراً ما يعض حلمة ثدى أمه أثناء الرضاعة تعبيراً عن ضيقه ومع نهاية عامه الأول يشد شعر أمه أو يعض خدها فى حالة غضبه وخلال السنوات الأولى عند محاولة الأم تدريبه علي اكتساب مهارات حياتية جديدة كالتبول مثلاً، ينشأ صراع بينهما إذ يضايقه إصرارها وقد تتطور عدوانيته للعند الشديد معها ورفض الامتثال لها ولا يمكن السيطرة -آنذاك- علي انفعالاته سوى بمزيد من الحب والصبر والتفهم الذى يجعله يتجاوب مع حبها له ويتعلم ضبط نفسه ويكف عن العناد الغير مبرر والغير مفهوم، وعندما يأتى ترتيبه بالمركز الثاني وقد قاسى من غيرة الأخ الأكبر وعانى الكثير من عدوانه عليه، يتحول بدوره لكائن شديد العدوانية فنجده شديد الدفاع عن ذاته ويجيد الحصول على حقوقه ولو بالصراخ وطلب الاستغاثة من الوالدين.
قد تأخذ أيضاً تلك الدوافع العدوانية شكل اللعب العنيف اعتباراً من العام الرابع وحتى الثامن إذ نجد الطفل يوجه المسدس تجاه أمه أو يقوم بدور الشرطى الذى يقود سيارته ويطارد اللصوص، مثل تلك الألعاب وغيرها تعد صمام أمان يسمح للطفل بالتنفيث عما بأعماقه من غضب أو ضيق وإن كان الأهل فى أغلب الأحيان يخشون من تطور سلوكيات العنف..بيد أنه مع حلول العام التاسع ونمو الضمير وازدياد الوعى، يبدأ الطفل في التحكم فى إحساس العداء وعدم اللجوء للعنف إلا مع مبادرة الغير بإيذائه، وأثناء المراهقة، تظهر تلك المشاعر بشكل صريح إزاء الأهل ورموز السلطة بوجه عام متمثلة فى التمرد على كل مألوف وانتقاد العادات والتقاليد الموروثة والرغبة الدائمة في اكتشاف كل ما هو جديد، فالفتاة التى كانت طفلة مطيعة هادئة لطيفة صارت تتعامل مع أمها بحدة وعدوانية وندية غير مقبولة والصبي المطيع تحول لوحش كاسر لا يستطيع أحد السيطرة عليه.
أساسي ولكن..
هكذا يلزم للإنسان قدر من الدافع الفطرى العدوانى لأجل التعبير عن نفسه وإثبات الذات وحماية نفسه من اعتداء الآخرين على كيانه وحريته بيد أنه عندما تتطور العدوانية لسلوك متكرر يلحق الأذى بالمحيطين ويسبب المشاكل للأسرة متخذاً مظاهر عدة حينئذ يتطلب الأمر وقفة ودراسة وبحثاً للحالة.
تتخذ مظاهر العدوانية لدى الأطفال أنماطاً عديدة وأشكالاً منوعة فقد تكون لفظية متمثلة فى السب أو الصراخ أو التهديد وقد تتخذ تعبيرات مباشرة ضد رمز السلطة سواء المنزلية ممثلة في شخص الأب أو الأم أو في المدرسة وغيرها من مصادر السلطة.
وقد تكون وقاحة وتحدياً للكبار أو اعتداء على الأقران بالضرب والركل أو المعاكسة وتدبير المقالب بالإضافة للقسوة على الحيوانات وتعذيبها، وقد يكون عنفاً موجهاً للممتلكات كخدش الأدراج والكتابة على الحوائط وتلطيخ الملابس بالحبر والألوان وفقدان الأشياء المدرسية، ولعل أخطر ألوانها ذلك العدوان السلبى والمتمثل في عدم الطاعة وتنفيذ الأوامر وتعطيل مصالح الآخرين ورفض المذاكرة، وإذا لم يتاح لتلك المشاعر العدوانية فرصة التعبير والإفصاح بأى طريقة فإنها تتجه للداخل عن طريق ممارسة العادات الضارة كالتدخين والإدمان بهدف إيذاء الذات أو القيادة المتهورة للسيارة بهدف التخلص من الحياة، وقد تتخذ شكلاً مرضياً يؤدى للكثير من الاضطرابات النفسية التى تنشأ من كبت العدوانية كالاكتئاب والأمراض الجسدية وغيرها، وهنا نتساءل هل الشخصية العدوانية للطفل تحددها عوامل وراثية بيولوجية لا يمكن التحكم فيها؟ أم أنها تتبلور وتتهذب بالنشأة السليمة وتقوم فيها الأسرة بالدور الرئيسى تليها المدرسة التى يجب أن تكون بيئة صحية لسلامة الطفل وصحته النفسية؟ و
ماذا عن المؤثرات المختلفة داخل المجتمع وأهمها وسائل الإعلام ودورها فى تكوين شخصية الطفل؟
بداية، لا يمكن إغفال العامل الوراثى والعضوى الذى يتم بحثه بمعرفة الطبيب المتخصص وبالتالي إصلاح ما يمكن إصلاحه عن طريق الفحوصات والأبحاث، أما الأمر الذي يشغلنا ملياً فهو الأسباب النفسية ودور الأساليب التربوية الغير سوية والتى قد تصيب الطفل بالإحباط نتيجة عدم إشباع احتياجاته الأساسية للنمو الجسدى والنفسى السليم ليصل لمرحلة تحقيق الذات والوصول لأهدافه فى الحياة، تبدأ احتياجات الطفل بالحاجة الفسيولوجية الأساسية كالطعام والشراب والمأوى والنوم للشعور بالأمان الاقتصادى ثم يحتاج الطفل للأمان النفسى الذي يتوفر له من خلال الجو الأسرى المستقر بعيداً عن الخلافات الزوجية التى تزعج الطفل وتجعله فى صراع وقلق نفسى شديد يعبر عنه بعدوانية إزاء والديه مع ضرورة الاتفاق على أسلوب موحد للتربية وعدم تذبذب معاملة الوالدين وتضارب آرائهما وكذا عدم تخويفه والابتعاد عن القسوة عند معاملته وإظهار القلق الزائد من قبل الوالدين إزاء ظروف العالم المحيط به حتى يهدأ ويستقر بداخله الشعور بالأمان والراحة، ومما لا شك فيه أن الحاجة العميقة للحب والحنان إن لم تشبع عبر الأسرة خلال السنوات الأولى من عمر الطفل تسبب خللاً كبيراً فى شخصيته فيما بعد لأنه من خلال تقبل الحب والاهتمام من ذويه يتعلم قبول الآخرين والثقة بهم فيما بعد مع تنمية قدرته على إقامة علاقات ناجحة مع العالم المحيط.
ضروري للعلاج..
ولعل أفضل وسائل التعبير عن الحب تكمن في التقدير والقبول الغير مشروط سواء من حيث عدم التمييز ما بين الولد والبنت أو الكبير والصغير أو القدرات والإمكانات العقلية أو الجسدية أو حتى الملامح الشكلية مما يؤكد ثقته بنفسه ويحدو به لسلوك سوى فى التعامل مع الآخرين وبعيد عن العدوانية،
والحاجة للإنجاز هى احتياج أساسى للطفل إذ لابد من منحه الفرصة للقيام بأعمال فى حدود قدراته بالمنزل أو المدرسة ونيل التشجيع والمديح لتوجيه طاقاته للبناء وليس للتدمير والعدوان مع عدم عقد مقارنات بينه وأقرانه الأكثر تفوقاً أو طلب مستويات عالية ترضى طموح الأهل ولا تراعى إمكاناته الأمر الذي من شأنه إصابته بالفشل والإحباط كما يدفعه للتصرف بعدوانية إزاء الآخرين، النهم للمعرفة والحصول على إجابات شافية تشبع فضوله أياً كان سنه ومستوى استيعابه تسهم كثيراً فى استقراره النفسى وعدم معاناته من الصراع بين إلحاح الفضول والرغبة فى المعرفة وبين تشدد الأهل بإخفاء المعلومات فيقل الشعور بالعدوانية تجاههم.
الحاجة للاستكشاف وحب الاستطلاع والتى تحبطها الحماية الزائدة التى يقدمها الوالدان والتى قد تمتد لتشمل كل جوانب الحياة دون أن يتركا له الفرصة للتجربة والاستفادة الشخصية من الاحتكاك بالآخرين تجعله في النهاية هشاً نفسياً ودائم الشعور بالضيق والإحباط فتثور عدوانيته إزاء الأهل متمثلة في المغالاة بالطلبات لإرهاق ميزانية الأهل بما يفوق التحمل ومهما نال من اهتمام يشعر بنفسه محروماً وعاجزاً نفسياً عن مواجهة الحياة ومواقفها الصعبة حيث تجمدت طاقاته وحبست حريته وزادت عزلته.
الصبر مطلوب..
لابد من تجنب التعامل بعدوانية لفظية أو بدنية إذ من شأنها زيادة حدة الانفعال والعدوانية، بيد أن التساهل وتجاهل الخطأ يؤدى لتكراره والتذبذب بين الأسلوبين أيضاً غير مجدى، لابد من بحث حالة الطفل أسرياً ومدرسياً ورصد الأحداث التي سبقت ظهور السلوك العدوانى كقدوم مولود جديد مثلاً مع التعرف على حاجات الطفل النفسية وصلتها بسلوكياته المضطربة، وينبغي أيضاً تجنب الأوامر والنواهى والعقوبات المستمرة وإيجاد مجال للحرية والانطلاق بالمنزل وخارجه بإفساح المجال لممارسة الهوايات والرياضة التى توجه طاقاته بطريقة بناءة وخاصة الألعاب الجماعية التى تبث فيه روح التعاون والانتماء والمنافسة مع إتاحة الفرصة للتعبير عن ذاته بحوار إيجابى يزيح عنه مشاعر الغضب بحسن الإنصات له وتوجيهه بطريقة جذابة وترسيخ القيم والمبادىء الدينية فى عقله فى مرحلة مبكرة مع التأكيد على النتيجة الجيدة لمن يسلك حياته بالالتزام ومراعاة الآخرين وإعطاء القدوة الحسنة بصورة شيقة، و أخيراً، توفير الحياة المنظمة الهادئة والنوم الكافى والطعام المتوازن بدون إفراط فى التوابل أو اللحوم مع التركيز على الخضروات والفاكهة، وتجنب المشاهد المثيرة ضرورة للأطفال، وعند تفاقم المشكلات نتيجة لعدوانية الابن وفقدان الأهل القدرة على التواصل معه يستدعي الأمر استشارة طبيب متخصص فى الاضطرابات النفسية للأطفال أو المراهقين بحسب المرحلة العمرية للطفل للتعامل مع الحالة حتى لا تؤدى لمشكلات نفسية معقدة يصعب التعامل معها فيما بعد إذ أن الأطفال بوجه عام يبدون دوماً بأمس الحاجة لمن يقترب إليهم ويتعايش معهم.