هل سبق وسألت نفسك: لماذا تقاد السيارات في بعض الدول من اليمين وفيها تكون عجلة القيادة جهة اليسار كما هو الحال بالدول العربية مثلاً فيما تأتي القيادة على اليسار وتكون عجلة القيادة جهة اليمين مثل بريطانيا؟ وعندما سألت نفسك هذا السؤال، هل وجدت إجابة مرضية؟ في الأغلب لا إذ لم يوجد تفسير منطقي لتلك الظاهرة حتي الآن. هذا وتمثل القيادة جهة اليسار ربع دول العالم تقريباً وأغلبها من دول الكومونويلث. والسؤال، لماذا لم يتم الإتفاق علي أسلوب واحد للقيادة يتم تعميمه علي مستوي العالم بأسره؟ وما الأصل؟ أن تكون القيادة على اليمين أم على اليسار؟سؤال بسيط قد لم يخطر ببالك من قبل والأرجح أن طرأ بلا إجابة وجولة سريعة حول أرجاء العالم لرؤية ما قد تعلم جيداً والتعرف عن قرب علي ما ربما لم تسمع عنه من قبل.
الأصل في القيادة أن تكون جهة اليسار والسبب يعود لمرحلة ما قبل إختراع السيارة حيث كانت غالبية الناس يسيرون علي الجهة اليسرى من الطريق وبصورة خاصة في تلك المجتماعات الإقطاعية العنيفة والتي ترتفع بها نسبة الجريمة بصورة بالغة ولافتة. ولأن الغالبية من الناس أيضاً يستخدمون يدهم اليمنى، لذا كان لزاماً عليهم السير على الجهة اليسرى من الشارع ليتمكنوا من حمل السلاح أو السيف باليد اليمني ولكي يكون الخصم قادماً من الجهة المقابلة وبالتالي تكون المنازلة بالسلاح أسرع وأكثر مهارة والإستعداد على أشده والتأهب علي قدم وساق. سبب آخر جعل القاعدة في القيادة جهة اليسار وهو أنه كان لزاماً علي الفارس متي أراد أن يمتطي الخيل، أن يفعل ذلك من جهة ويكون سيفه من الجهة الأخري وهي عادة الجهة اليسرى من الخصر، وبالتالي أصبح من الصعب إمتطاء الحصان من اليمين فعملية الترجل يجب أن تكون أيضاً من الجهة اليسرى ليكون الحصان حاجزاً ما بين الفارس والطريق فأحياناً يريد الفارس النزول سريعاً أثناء سير الحصان ونزوله على الجانب الأيمن يشكل خطورة بالغة عليه. مع نهاية القرن الثامن عشر، كان قائدو عربات الشحن الزراعية بفرنسا والولايات المتحدة قد اعتادوا قيادة عربات تجرها مجموعة من الخيول المدربة ومن الطريف أنه لم يكن هناك مقعد للسائق على العربة ذاتها بل كان لزاماً عليه أن يعتلي حصاناً آخر بالجهة اليسرى من العربة ليستخدم يده اليمنى في ضرب الخيول لزيادة سرعتها وإندفاعها علي الطريق. ولما كانت العادة قد جرت علي أن يركب الجميع جهة اليسار، أصبح حتمياً الإلتزام بالجهة اليمنى لرؤية العربات المقبلة وحتي لاتحجبها الخيول ومن ثم تؤدي لإصطدامات تؤذي الخيول والراكبين والعربات وكانت الحوادث من الأمور التي يحاول الجميع تفاديها بفضل زيادة العنف ما بين الجموع وإمكانية سقوط قتلي جراء حادثة بسيطة. ومن الطريف أيضاً أن الثورة الفرنسية كانت من أهم أسباب القيادة جهة اليمين إذ كان الإقطاعيون يسيرون يسار الطريق فيما يجبرون الطبقة الكادحة بالسير على اليمين للترفع عنهم وكانت تلك إحدي الوسائل المعروفة للتمييز الطبقي والعنصرية الشديدة بيد أن الثورة أجبرتهم على مساندة الكادحين والسير معهم بنفس الإتجاه وعلي نفس المنوال والطريقة مما أدي إلي إختفاء السير جهة اليسار بصورة تامة. وبعد قرابة خمس سنوات، صدر قانون المرور الفرنسي الذي نظم السير بشكل نهائي ووضع لائحة تنظيمية لكافة أصوله وقواعده واعتمد الجهة اليمنى رسمياً وانتشر من فرنسا لعدة دول أوروبية منها هولندا وبلجيكا وألمانيا وبولندا وسويسرا وبعض أجزاء من إسبانيا والبرتغال إثر غزوات نابليون بونابرت والذي دأب علي فرض القانون الفرنسي بالأماكن التي يحل عليها. ولعل بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي قاومت بونابرت وتمسكت بالجهة اليسري في دلالة واضحة للصراع الحضاري الأزلي ما بين الحضارة الإنجليزية والفرنسية ومن ثم كان رفض الإنجليز القاطع للإنصهار بأي قالب يحمل طابعاً فرنسياً أو وظلت بريطانيا علي عهدها فيما سارت علي نهج الإمبراطورية الفرنسية في فرض قواعدها وقوانينها علي البلاد التي تحتلها.
بين إندونيسيا واليابان
إثر فتوحات بونابرت، أمست القيادة على اليمين سمة عالمية ونظراً للحساسية التاريخية بين الإنجليز والفرنسيين، قاومت بريطانيا العظمى هذا الإتجاه مصدرة قانوناً رسمياً عام 1835 يلزم بالقيادة جهة اليسار وهو الأمر الذي طبقته بكافة مستعمراتها.وبرغم عدم كون اليابان مستعمرة بريطانية، فإن القيادة فيها كانت ولا زالت جهة اليسار والسبب يعود إلى القرن التاسع عشر حينما كانت اليابان بحاجة لبناء شبكة سكة حديد، ونظراً لإفتقادهم الخبرة بهذا المجال، اضطروا للإستعانة بالإنجليز لبناء شبكة السكة الحديدية. وعليه، طبق الإنجليز قواعدهم المرورية جاعلين الشبكة من الجهة اليسرى من الطريق بحيث يكون القطار المقابل قادماً من اليمين. استمر الوضع 50 سنة قبل صدور قانون رسمي بالقيادة على اليسار عام 1924. ولإنونيسيا قصة طريفة، فعندما بلغ الهولنديون إندونيسيا لإستعمارها عام 1596، قاموا بفرض قانونهم بأن تكون القيادة جهة اليسار وكان ذلك قبل قيام بونابرت بإستعمار هولندا وإجبار شعبها علي القيادة جهة اليمين. ومن يومها، بقيت إندونيسيا على تلك الحالة بينما بدل الهولنديون اتجاه السير من اليسار لليمين.
بأمر بريطانيا.. أمريكا من اليمين
قام الإنجليز -خلال إستعمارهم للولايات المتحدة- بفرض عاداتهم في القيادة على اليسار بيد أن الأخيرة سرعان ما تحررت من الإستعمار الإنجليزي إذ عقد الأمريكان العزم علي التحرر من كافة ما فرضه الإنجليز عليهم كما كان للمهاجرين من باقي الدول الأوروبية بالغ الأثر بتغيير نظام القيادة لليسار فيما كللت تلك الجهود بمجموعة قوانين رسمية صدرت بولاية بنسلفينيا عام 1793 ونيويورك عام 1804 ونيوجرسي عام 1813 ونصت علي حتمية القيادة جهة اليمين. وبرغم التطورات التي طرأت علي الولايات المتحدة، كانت بعض المقاطعات الكندية تعتمد النظام الإنجليزي في القيادة ومنها بريتيش كولومبيا ونيوفاوندلاند واستمر الوضع حتى بعد الحرب العالمية الثانية حين أصدرت الحكومة الفيدرالية نظاماً بتوحيد القيادة على اليمين ليصبح أسلوب القيادة موحداً. ومع مستهل القرن العشرين، أصدرت أغلب الدول الأوروبية ومنها إسبانيا والبرتغال وإيطاليا قوانيناً رسمية تلزم بجعل القيادة على الجهة اليمنى لتتماشى وباقي الدول.
في باكستان.. الجمل هو السبب
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز كلاً من الولايات المتحدة وروسيا كقوة عظمى. ومع إمتداد النفوذ الأمريكي لدول آسيا، كانت القيادة إجباراً على اليمين. ولما كانت السيارات الأمريكية تستحوذ على النصيب الأوفر بالسوق العالمية وكانت مصممة للقيادة جهة اليمين بالطريق وذلك بجعل عجلة القيادة يسار السيارة، أجبرت الصين وكوريا على السير علي المنوال ذاته. كانت باكستان تعتمد أيضاً النظام الانجليزي بالقيادة على اليسار بيد أنها خلال الستينيات من القرن العشرين، قررت تغيير نظامها إلى النظام العالمي الجديد والقيادة يميناً لكنها تراجعت لسبب غير متوقع وهو أن قوافل الجمال كانت تسير ليلاً بالطرق للإستفادة من نوم سائقي السيارات وتغيير النظام يعني معاكسة الجمال للسير ومن الصعب تعليمها النظام الجديد وبالتالي استمرت باكستان بالقيادة على اليسار.
في غضون الستينيات من القرن الماضي، واجهت بريطانيا قلائل داخلية لكونها منعزلة بنظام القيادة الخاص بها بيد أن الأصوات المحافظة رفضت التغيير واليوم، توجد فقط أربع دول أوروبية تعتمد القيادة على اليسار وهي كل من بريطانيا وأيرلندا وقبرص ومالطا. أما علي مستوي العالم بأسره، فلم يتبق سوي الهند وإندونيسيا وباكستان وبنجلاديش وتايلاند وتنزانيا واستراليا وماليزيا ونيوزيلاندا.